تتمتع الإدارة بسلطة توقيع جزاءات على المتعاقد معها إذا ما قصر في تنفيذ التزامه بأي وجه من الوجوه سواءً كان بالامتناع من جانبه عن تنفيذ العقد أو بتأخيره في التنفيذ أو بالتنفيذ غير المرضي أو بإحلال غيره في التنفيذ دون موافقة الإدارة، فالإدارة في كل هذه الحالات لها الحق بأن توقع على المتعاقد معها جزاءات لا يألفها الأفراد في عقود القانون الخاص، بل من غير الجائز أن ترد في تلك العقود. وإذا كان المبدأ العام في تنفيذ العقود (حسن النية) بما يلقي على المتعاقدين واجباً مشتركاً بعدم الإخلال بالتزاماتهم التعاقدية، فإنه يضاف إلى هذا المبدأ مبدأ آخر خاص بالقانون الإداري يتعلق بضرورة الحفاظ على سير المرافق العامة، ولذلك فإن الإخلال بالتزامات التعاقد الناجمة عن عقد إداري يترتب عليه جزاءات شديدة، فنظام الجزاءات في العقود الإدارية لا يستهدف فقط إعادة التوازن بين التزامات الطرفين كما لا يتسم بطابع العقوبات كجزاء رادع، وإنما الهدف الأساسي منه هو الوصول إلى تنفيذ الالتزام الضروري لسير المرفق العام، فانتظام سير المرفق العام يتطلب تنفيذ العقود الإدارية المتصلة به بدقة. وتنقسم الجزاءات التي تملكها الإدارة إلى نوعين من حيث مصدرها، وإلى عدة أنواع من حيث موضوعاتها، فمن حيث المصدر هناك الجزاءات العقدية والجزاءات غير العقدية. أما الجزاءات العقدية فهي تلك الجزاءات التي تنبع من العقد، أي منصوصاً عليها فيه. أما الجزاءات غير العقدية فهي تلك الجزاءات التي لا يكون منصوصاً عليها في العقد وإنما تستلزمها ضرورات المصلحة العامة، وقد تبّنى مجلس الدولة الفرنسي هذا الموقف حيث قضى بأنه إذا لم ينص العقد على الجزاء الواجب إيقاعه في حالة الإخلال بالالتزام الناشئ عن العقد، جاز» للقاضي» بناء على طلب الطرف (المضار) أن يحكم بجزاءات تتناسب ومدى الإخلال بنصوص العقد، وتكون الإدارة خاضعة في فرض ذلك الجزاء لرقابة القضاء بطبيعة الحال، والآن أصبحت سلطة توقيع الجزاءات من جانب الإدارة ليست حقاً بيد الإدارة فقط، وإنما واجب عليها لا تستطيع النزول عنه كلما تطلبت ذلك المصلحة العامة، وهذا ما قرره بعض القضاء. ومع أن الفقه والقضاء مستقرين على ثبوت سلطة الإدارة على توقيع الجزاءات في العقد إلا أن هناك اختلافاً في أساسها القانوني، ففريق يؤسسها على مبدأ استمرار وانتظام المرفق العام، وآخر يؤسسها على فكرة السلطة ذاتها، والحقيقة أن كلا الفكرتين تلتقيان في نقطة واحدة، وهي تحقيق المصلحة العامة من خلال السير المنتظم للمرفق المتعلق بالعقد. أما من حيث الموضوع فتستطيع الإدارة فرض أنواع متعددة من الجزاءات حسب النظام القانوني الذي تسير بمقتضاه، فقد تكون هناك جزاءات مالية وهناك جزاءات غير مالية. أما الجزاءات المالية فهي عبارة عن المبالغ التي يحق للإدارة مطالبة المتعاقد بها عندما يخل بالتزاماته التعاقدية، وهي على نوعين، فمنها ما يكون الغرض منه تغطية ضرر حقيقي لَحِق بالإدارة نتيجة لخطأ المتعاقد، ومنها ما يقصد به توقيع عقاب على المتعاقد بغض النظر عن صدور خطأ من جانب المتعاقد، لأن الجزاءات في العقود الإدارية لا تنحصر في الحقيقة على ضمان تنفيذ الالتزامات التعاقدية، وإنما تشمل كذلك ضمان وتأمين سير المرافق العامة بانتظام واطراد، بل إن العقود الإدارية ليست كالعقود المدنية إذ تخضع لنظام قانوني خاص يخول الإدارة اقتضاء حقوقها مباشرة دون عرض النزاع على القضاء. وأول هذه الجزاءات المالية ما يُعرف بالتعويض، غير أن البعض يرى أن التعويض لا يعتبر من الجزاءات المالية الإدارية لأنه مجرد تطبيق للقواعد العامة في القانون الخاص، إلا أننا نقول بأنه ما دامت الإدارة لديها القدرة على الحصول على ذلك التعويض بنفسها دون عرض الأمر على القضاء مقدماً فإن ذلك يكفي للقول بأن سلطة الإدارة ملاحظة فيه بشكل واضح وجلي وبما يكفي لاعتباره منها. وليس لمبلغ التعويض مقدار معلوم سلفاً، لكن الإدارة لا تستقل بتقديره لوحدها بالرغم من قدرتها على اقتضائه من المتعاقد، حيث يستطيع الأخير الطعن في تقدير التعويض أمام المحكمة، وحينذاك تتولى المحكمة تقدير ظروف العقد من خلال الدعوى. ويرى بعض الفقهاء أن التعويض في العقود الإدارية له دور أقل مما له في دائرة العقود المدنية، إذ أن أية تعويضات مهما كانت قيمتها لا تعتبر دائما عوضاً عادلاً عن الضرر الذي يحدث للإدارة، وذلك لتعلق الفائدة من العقد الإداري بأشخاص هم ليسوا أطرافا في العقد بل منتفعين من خدمات المرفق الذي يتعلق به ذلك العقد، فالأفراد الذين هم المنتفعين من العقود الإدارية، وهؤلاء الأفراد لا يعنيهم أن يقوم المتعاقد المقصر بدفع مبلغ من النقود مقابل تقصيره. وثاني الجزاءات المالية ما يُعرف بالغرامة التأخيرية، والغرامات في العقود الإدارية يحق للإدارة فرضها سواءً نص العقد عليها أو لم ينص، وتُفرض الغرامات التأخيرية بصورة عامة عن الغش والإهمال في تنفيذ الأعمال مهما كانت طبيعة العقد، غير أن العمل يجري على فرضها كجزاء عن عدم احترام مدة العقد، كما تستطيع الإدارة فرض الغرامة التأخيرية دون حاجة إلى توجيه إنذار إلى المتعاقد معها، على خلاف ما هو عليه الحال في القانون المدني الذي يوجب الإنذار قبل أي تهديد مالي. وسلطة الإدارة في فرض الغرامة التأخيرية على المتعاقد معها ثابتة دون حاجة الإدارة لإثبات أن ضرراً ما قد وقع عليها نتيجة هذا التأخير ، لأن مجرد التأخير يُعد ضرراً، ويجب أن يُعلم أن فرض هذه الغرامة ليس أمرا وجوبياً وإنما رخصة يحق للإدارة أن تستعملها ولها أن تتجاهلها. وثالث الجزاءات المالية مصادرة الضمانات وهي مبلغ من المال يودع لدى الجهة الإدارية المتعاقدة، تتوقى به آثار الأخطاء التي يرتكبها المتعاقد أثناء تنفيذ العقد الإداري ويضمن لها قدرته على مواجهة المسؤوليات الناتجة عن تقصيره، أما مقدار هذه الضمانات فمحددة وفق نسب محسوبة من مبلغ المقاولة جاءت في نظام المنافسات والمشتريات الحكومية واللائحة التنفيذية، وتعفى دوائر الدولة من هذه الضمانات حينما تقوم بتنفيذ بعض المقاولات بنفسها. ومصادرة الضمانات تشبه الشرط الجزائي المتفق عليه في العقود المدنية في كونهما يفرضان على المتعاقد جرّاء إخلاله بالتزاماته التعاقدية، غير أنها تختلف عنه في جواز فرضها بإرادة الإدارة المنفردة. أما الجزاءات غير المالية فهي جزاءات تمتلكها الإدارة تستطيع من خلالها إرغام المتعاقد على تنفيذ العقد بما يؤمن حسن سير المرافق العامة المتعلقة بها، وهذه الوسائل أو الجزاءات قد تكون جزاءات جنائية، وقد تكون جزاءات ضغط مؤقتة أو نهائية على المتعاقد معها بغية إرغامه على تنفيذ التزاماته العقدية. فالجزاءات الجنائية تستطيع الإدارة فرضها أحياناً على المتعاقد معها وتستمد قدرتها في فرض هذه الجزاءات لا بصفتها طرفاً في العقد وإنما بصفتها سلطة عامة تقوم بممارسة نشاط ضبط إداري على المتعاقد معها. وعند توفر إحدى الحالات الموجبة للجزاء يجب تشكيل لجنة خاصة تتولى التحقيق وتقترح مدة تراها لمنع التعامل مع الشركة أو المقاول، وتطلب من الجهة المخولة إدراج اسم الشركة أو المقاول في القائمة السوداء للمدة المقترحة ، وتُتخذ الإجراءات اللازمة لإحالة الشركة أو المقاول إلى القضاء لفرض العقاب اللازم، وحينما يتقرر إدراج الاسم في القائمة السوداء فعلى الجهة المخولة بإصدار القرار أن تقوم فوراً بإعلام الجهات الحكومية المعنية بذلك وخاصة وزارة المالية، وتُبلَّغ الشركة أو المقاول بقرار وضع الاسم في القائمة السوداء. وعقوبة وضع الشركة أو المقاول في القائمة السوداء هي عقوبة أصلية تمتلكها الإدارة وتفرضها على وجه الاستقلال بإرادتها المنفردة دون عرض الأمر على القضاء، وتقوم كذلك الإدارة المعنية بإحالة الشركة أو المقاول إلى القضاء لينال جزاءه ويكون هذا الجزاء هو الآخر عقوبة أصلية تفرضها المحكمة وفق ما يبدو لها من أوراق الدعوى، ولكل من هاتين العقوبتين طريقها وأصول فرضها فإذا ما صدر قرار من المحكمة المحال إليها من المقاول بالبراءة فإن تلك البراءة لا تعتبر ملزمة للإدارة التي اتخذت قرار درج اسم المقاول بالقائمة السوداء، لأن الجهة الإدارية كوّنت قرارها بناءً على ما تحقق لها من أسباب أو وقائع بعثت في نفسها دافعا إلى إصدار قرار الوضع بالقائمة السوداء في جو أصبح فيه (الشك والريبة) حول نية المتعاقد هو المخيّم على العلاقة بينهما. وفي نطاق العقود الإدارية بالذات يجب الحفاظ على مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود والحفاظ على العلاقة العقدية في إطار التعاون المشترك بين المتعاقد والإدارة، وبالتالي فإن الإدارة لا تُلزم بقرار المحكمة حينما تقرر براءة الشركة أو المقاول وذلك لاستقلال كل منهما في فرض الحكم. أما جزاءات الضغط فالهدف منها إرغام المتعاقد والضغط عليه بغية تنفيذ التزاماته بموجب العقد، وتتمثل هذه الجزاءات بما يلي: 1- سحب العمل (في عقود المقاولات). 2- الشراء على حساب المتعاقد (في عقود التوريد). 3- وضع المشروع تحت الحراسة (في عقود التزام المرافق العامة). ويُلاحظ أن قيام الإدارة بأي إجراء من إجراءات الضغط المذكورة لا ينهي العقد، بل يعتبر المتعاقد متوقفاً عن أداء الأعمال، وتقوم الإدارة بنفسها أو بواسطة من تستخدمه كبديل عن المتعاقد بتنفيذ العقد المذكور على حساب المتعاقد وعلى مسؤوليته الخاصة، ولأن هذه الإجراءات بهذه القسوة فإنه لا يجوز للإدارة أن تلجأ إليها إلا إذا أخل المتعاقد معها إخلالاً جسيماً بالتزاماته العقدية، كأن يتأخر في التنفيذ مدة طويلة رغم الإنذار المتكرر، أو يهمل كثيراً في تنفيذه للعمل بشكل لا ينم عن حرص وأمانة من جانبه بالرغم من تنبيهه من الإدارة بواسطة ما يُعرف ب»أوامر العمل» ، ونبيّن فيما يلي هذه الإجراءات: - سحب العمل (في عقود المقاولات): وهو وقف المقاول عن أداء الأعمال بموجب خطاب من جانب الإدارة وقيامها بتنفيذ العمل بنفسها أو بواسطة متعاقد جديد على مسؤولية وحساب المتعاقد الأول، وحق الإدارة في ممارسة هذا الجزاء كما يرى كثير من الفقهاء مرتبط بالنظام العام، وبذلك لا حاجة للنص عليه في العقد، كما أن الأسباب التي تبرر سحب العمل من المقاول على سبيل الحصر لا على سبيل المثال يمكن وضعها (تبسيطاً للموضوع) في فئتين: * الفئة الأولى: أسباب متعلقة بالمركز المالي للمقاول ومنها: 1- إفلاس المقاول أو تقدمه المقاول بطلب لإشهار إفلاسه. 2- صدور حكم قضائي بوضع أمواله في يد أمين التفليسة. 3- إذا عقد المقاول صلحا يقيه الإفلاس أو تنازل عن حقوقه لصالح دائنيه. 4- إذا وافق المقاول على تنفيذ المقاولة تحت إشراف هيئة مراقبة مؤلفة من دائنيه. 5- إذا كان المقاول شركة أعلنت تصفيتها ، باستثناء التصفية لأغراض الاندماج أو إعادة التكوين. 6- إذا تنازل المقاول عن المقاولة بدون موافقة تحريرية مسبقة من جانب الإدارة. 7- إذا حُجزت أموال المقاول من محكمة ذات اختصاص وأدّى هذا الحجز إلى عجزه عن الإيفاء بالتزاماته. * الفئة الثانية: الأسباب المتعلقة بشخص المقاول ومنها: 1- إذا تخلى المقاول عن المقاولة أو امتنع عن التصديق على صيغة عقدها. 2- إذا عجز المقاول بدون عذر مشروع عن مباشرة الأعمال، أو أوقف العمل مدة 30 يوماً بعد تسلمه إشعاراً تحريرياً من المهندس بلزوم المباشرة. 3- إذا فشل المقاول في رفع المواد من موقع العمل، أو في هدم الأعمال أو في استبدالها خلال 30 يوماً بعد تسلمه إشعاراً تحريرياً من المهندس يفيد بأن المواد مرفوضة لعدم صلاحيتها. 4- إذا كان المقاول غير قائم بتنفيذ الأعمال طبقاً للمواصفات والشروط، أو أنه تعمد الإهمال وعدم المبالاة في التنفيذ. 5- إذا تعاقد من الباطن بخصوص أي قسم من المقاولة بشكل يضر بجودة العمل، أو يخالف تعليمات المهندس المشرف على العمل. - أما الشراء على حساب المتعاقد: فهذا يكثر في عقود التوريد، فالمتعهد المقصر في توريد ما التزم به، بأن قدَّم البضاعة على خلاف المواصفات المتفق عليها، أو تأخر في التوريد، يكون قد أخل بدوام سير المرفق العام، مما يجيز للإدارة الشراء على حساب المتعاقد إلا أنه يجب على الإدارة إتباع الإجراءات التالية قبل القيام بالشراء على حساب المتعاقد: 1- إعطاء المتعاقد مهلة أولية في حال أن العقد لم ينص على عدم الإمهال. 2- تقوم الإدارة بشراء المواد أو الأصناف التي لم يقم المتعهد بتوريدها من غيره على نفقته، أما ما ينتج من زيادة في الثمن والمصاريف الإدارية وما يستحق على المتعاقد المقصر من غرامة عن مدة التأخير، فيُخصم من مبلغ الضمان المُودع ابتداءً لدى الجهة الإدارية، أو من أي مبلغ آخر يكون مستحقاً للمتعاقد لديها أو لدى أي جهة أخرى وذلك من باب التعاون بين الجهات الإدارية. - أما وضع المشروع تحت الحراسة: فهو أن تضع الإدارة المرفق تحت الحراسة في حالة التوقف الكلي أو الجزئي للمرفق، ويكون الالتجاء إلى هذه الوسيلة في عقود التزام المرافق العامة، ويُلاحظ بأنه يمكن الالتجاء إلى هذه الوسيلة دون وجود خطأ من جانب المتعاقد كأن يكون التوقف راجعاً إلى القوة القاهرة، فهنا تُفرض الحراسة لضمان سير المرافق العامة، ووضع المشروع تحت الحراسة لا يعني إنهاء العقد ولا يؤدي إلى إسقاط حقوق المتعاقد الأصلي، وإنما كل ما يترتب عليه هو رفع يد المتعاقد مؤقتاً عن إدارة المشروع، وحينما تضع الإدارة المرفق تحت الحراسة، فهي إما أن تديره بنفسها أو أن تتعهد بتلك الإدارة إلى حارس مؤقت تختاره، ويجب التفريق بين ما إذا فُرضت الحراسة دون خطأ منسوب إلى المقاول وبين ما إذا فُرضت الحراسة كجزاء على تقصير المقاول وإخلاله بالتزاماته، ويترتب على وضع المرفق تحت الحراسة بعض الآثار القانونية، ومنها: 1- استبعاد المقاول المتعاقد مؤقتاً من إدارة المرفق لحين انتهاء فترة الحراسة، فالعقد يكون موقوفاً وحاملاً لآثاره القانونية. 2- تقوم الإدارة بنفسها أو بتعيين حارس محلها بإدارة المرفق محل العقد، ويبقى المتعاقد مسؤولاً عن المرفق. 3- يكون من حق الإدارة الاستيلاء مؤقتاً على العدد والأدوات اللازمة لاستغلال المرفق والمملوكة للملتزم على أن تعاد له فيما بعد بحالة سليمة. 4- ليس من حق الإدارة أن تمنح لنفسها زيادات لا مبرر لها، بأن تخفض رسوم الانتفاع، أو تزيد تكاليف الاستغلال، لأن الحراسة تُفرض على حساب المقاول المتعاقد حينما يكون خطأه هو سبب وضع المرفق تحت الحراسة، أما إذا لم يكن وضع المرفق تحت الحراسة بسبب خطأ المقاول المتعاقد فإن الإدارة تتحمل وحدها مصروفات استغلال المرفق العام.