الإيمان في اللغة / هو التصديق والاطمئنان. وفي الشرع / هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. والتصديق والاطمئنان هنا يدخل حيز العقل والقلب، فالعقل هو المخول بتصديق الأفكار أو تكذيبها وعدم الاقتناع بها بينما القلب يطمئن لاختيار العقل سواء صدق أو كذب الفكرة. وكما هو معروف أن هناك أناسا وهم كثر آمنوا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان قلوبهم، بل ظل إيمانهم كنوع من أنواع النفاق الاجتماعي حتى يتخلص من أقوال الناس ووصفهم له بأقذع الألقاب وليس أقلها الكفر، لذلك نشأ بيننا ما يسمى بالتطرف والغلو في الأشخاص وليس الأفكار، فتجد الفرد من أولئك يؤمن بالشخص أكثر من إيمانه بالفكرة التي طرحها ذلك الشخص فإن عدل عن فكرته عدل هو الآخر عن إيمانه بها حتى وإن كان بالأمس أكثر المنافحين عنها. وهؤلاء الأشخاص بعضهم يتطرف في تصديق شيخ ما، وينافح عنه حتى وإن كان لن يتبع منهجه، بل وأن بعضهم ربما كان أشد الناس فسقاً، ذلك لأن الفرد ينشأ وسط ظروف اجتماعية تؤثر فيه وتكسبه معارفه وخبراته، وحيث إن النمط الاجتماعي السائد في أزمنة مضت كان هو تقديس الشخص الملتحي فحسب حتى وإن كان لا يملك من العلم شيئاً وذلك باعتباره شيخاً ملتزماً بتعاليم الدين الإسلامي حتى نشأ الأفراد على تقديس كل ملتحي سواء كان عالماً أو غير عالم وتأجير عقولهم لهم وتقديم فروض الولاء والطاعة فأصبح الكثير منهم متطرفا في إتباعه لذلك الشخص دون النظر إلى فكرته وهل تتناسب مع ما يمكن أن يصدقه العقل ويقبله أم لا، بل وأنه حرم نفسه من حرية الفكر وظل يراوح في ذلك النمط الاجتماعي الذي نشأ عليه غير قادر على التفكير ويعتقد أن هناك من يفكر بشكل أفضل منه ويختار له أفضل الخيارات. لذلك قال عبدالله القصيمي في كتابه (هذي هي الأغلال) حين وصف سببب فشل الدعاة الذين جاءوا قبل مجيء الشيخ محمد بن عبدالوهاب «بل كانت هناك مواقع مؤلفة من النظام الاجتماعي القائم ومن التربية الدينية المختلة ومن الوراثة ومن البيئة ومن التفكير العام، تحول بينهم وبين الإيمان بمبدأ التوحيد النقي، ومن أجل هذا نجد أكثر الذين يقبلون بهذا المبدأ إجمالاً من أهل هذه البلاد يدخلون عليه في التفصيلات ما ليس منه، أي أنهم في الأكثر لا يستطيعون إدراك هذا التوحيد وهذا السمو الفكري إدراكاً صحيحاً كاملاً مبرأ من شوائب ما يضاده وينافيه، وسبب هذا هو عجزهم عن التحرر من سيطرة المواقع الآنفة وهي النظام الاجتماعي والتربية الدينية والتفكير العام والبيئة والوراثة، هذه هي أسباب فشل أولئك الدعاة المحزن « ومن خلال ما ذكره الكاتب عبدالله القصيمي يتضح لنا مدى استمرار تأثير النظام الاجتماعي والنسق الذي نشأ فيه الفرد على تصرفاته، فمازلنا حتى التسعينات الميلادية نعيش في حالة غريبة نطلق من خلالها لقب شيخ على كل ملتحي فحسب والشيخ كان مقدساً وكأنه ليس إنسانا يخطئ ويصيب حتى كُبلت العقول بالأغلال فلم يعد الشخص يجد بداً من تصديق أي فكرة بعد أن ساد الجهل وتغلغل في العقول فتخلى العقل عن وظيفته الأساسية وهي التفكير، لذلك يقول الدكتور عبدالكريم بكار : « حين يسود الجهل ويخيم الجمود العقلي، يسارع الناس إلى تصديق كل ما يسمعونه ويتلقفونه على أنه حقيقة ثابتة مع أنه لا يعدو أن يكون رأي من الآراء» وقد قيل (يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال) ولو عكسنا العبارة السابقة لتعرفنا تماماً على فكر أولئك الذين آمنوا بألسنتهم ودأبوا على الدفاع عن أولئك التكفيريين وتطرفوا في تكفير الناس وإخراجهم من الملة لمجرد اختلافهم في قضية ما مع أحدهم. فهم يؤمنون أشد الإيمان بالأشخاص ويرونهم ملائكة تمشي على الأرض لا يمكن لهم أن يخطئوا بأي حال من الأحوال وبهذا لم يعد لأفكارهم قيمة، حتى وإن وجدوا أنفسهم يوماً يختلفون مع أولئك الأشخاص الذين يتبعونهم في قرارة أنفسهم فإنهم لا يستطيعون المواجهة أو إظهار هذه الفكرة إطلاقاً لأنه حينها يشعر بالذنب وكأنه ارتكب جرماً عظيماً لأنه فكر وخالف معتقد ما أنزل الله به من سلطان. تقول الكاتبة كوثر الأربش: « إذا تمكنت من تحرير يديك من قيود النفاق الاجتماعي فإنك موعود بالخلاص الأكبر وهو حرية الفكر « وكما أسلفت فإنه لا يستطيع المواجهة، لشعوره بالذنب لأنه فكر وحاول إقناع نفسه بفكرة ما أو نفيها حسب ما يقتضيه العقل وهذا يجعله يدور في دائرة الشعور بارتكاب ذنب وجرم عظيم, ولأنه كذلك يخشى من ردة فعل من حوله حيث قد تكون قاسية لدرجة وصفه بالعلمانية والكفر وهذا ما يجعله يؤثر الصمت والعيش كغيره ممن أجروا عقولهم.