بين فينة وأخرى أحب أن أراجع حياتي خلال السنوات الخمس الماضية؛ فأحصي إنجازاتي، وأحصي خيباتي، وإن كنت دائماً أجد خيباتي أكثر بكثير من إنجازاتي. وفي كل مرة أحصي تلك الخسارات أدخل في حالة نفسية معقدة، أجلد فيها ذاتي، وأتذمر، وأصرخ كثيراً بيني وبين نفسي بصوت مقموع مكتوم، لا يسمعه أحد غيري، وأبكي على اللبن المسكوب بلا دموع؛ فثقافة البكاء تعتبر (عيباً) في مجتمعنا الصلف الجاف. وبينما أفعل ذلك دب إلى ذهني سؤال جريء، لم أسأله لنفسي قبل ذلك مطلقاً، هو: (ماذا خسرت لتصرخ..؟). فكرت كثيراً في معنى الخسارة، وما هي القيمة الحياتية التي تستحق أن نطلق على اكتسابها مكسباً أو إنجازاً، وفقدانها يعد خسارة؟ هل هي الإيمان، أم الحب، أم المال، أم العلم، أم الصحة..؟ فكل تلك القيم الحياتية تصب في خدمة الذات الإنسانية؛ فهي إما أن تعمره، أو تدمره؛ فهل تستحق أن نكسبها أو نخسرها؛ فنفتخر بها أو نتحسر عليها بقية حياتنا؟ يقول الأخصائي النفسي والخبير المعالج للمشكلات الأسرية دانييل جوتليب في رسائله إلى حفيده سام: «بعد أسبوعين من الحادث كنت راقداً في سريري بالمستشفى، وسمعت الأطباء في الرواق يقولون (ذلك المشلول في غرفة 301، هل تناول الدواء؟). وقد كنت قبل أسبوعين فقط الدكتور جوتليب في بعض الدوائر، وفي دوائر أخرى كنت دان، وفي دوائر أخرى كنت بابا، والآن أنا مشلول! حسناً، لقد علمتُ يا سام على مدار السنوات أن الشلل الرباعي ليس هو كل ما أنا عليه، إنما هو جانب علي أن أتعامل معه». وحين نعلم أن خسارة دانييل جوتليب هنا هي خسارة صحية جسدية، تمثلت في الشلل الرباعي، وخسارة معنوية تمثلت في إطلاق كلمة مشلول عليه بعد أن كانوا ينادونه في بعض الدوائر (الدكتور جوتليب)، ومع ذلك يصف كل ذلك بأنه مجرد جانب عليه أن يتعامل معه، وأن هذا ليس كل ما هو عليه؛ فإنني بذلك أوقن يقيناً لا يخالطه ريب أو شك أن الخسارة الحقيقية التي تستحق أن نصرخ لأجلها هي خسارة الذات واحترام وتقدير النفس. كما أن المكسب الحقيقي الذي يمكن أن يعوضنا عن أي خسارة أخرى هو كسبنا لذاتنا؛ لأن كسب الذات سيجعلنا نخرج من كل خيبة رافعين الرؤوس غير مطأطئين من أثر الهزيمة، بل إن كل خيبة ستجعلنا نتعلم أشياء جديدة، لم نكن لنعرفها لو أننا لم نتذوق طعم الخسارة. وهذا يعتمد بشكل كبير على تلك الذات التي يجب أن توسع مداركها، فلا تكبلها أو تملؤها المشكلات والخسائر بين الحين والآخر. ففي قصة فلسفية يُحكى أن شاباً كان يعاني بشدة، ولا يستطيع الحصول على راحة لحظة واحدة. فيذهب إلى معلمه ليساعده، ويطلب منه المعلم أن يضع ملعقة من الملح في كوب من الماء، ويقلبها ويشربها. وبالطبع، يجد الشاب أن الماء مالح للغاية؛ فيطلب منه المعلم أن يأخذ ملعقة ملح أخرى، ويضعها في نبع الماء ثم يشرب؛ فيفعل الشاب الشيء نفسه، لكن الملح هنا لم يكن له أثر؛ فيعلق المعلم قائلاً: «ليست المشكلة في الملح، إنما في الوعاء. عليك أن تجعل الوعاء أكبر». فأقول: لو جعلنا وعاء الذات أكبر، ودرَّبنا أنفسنا على تقبُّل الألم والحنين والخسارة لاستطعنا أن نحقق الكثير من المكاسب في حياتنا اليومية بشكل عام حتى وإن كنا للتو قد خرجنا من خسارة فظيعة، ولو عرفنا الفرق بين التفكير الإيجابي والتفكير السلبي والتفكير الصحيح لما استطاعت أن تُحدث الخسائر ما تحدثه من جلد للذات وكَيل للعنات على كل شيء، وكأن الحياة دوماً ضدنا بينما تسير بشكل جميل مع غيرنا من الناس. يقول الدكتور روبرت أنتوني: «كل منا لديه القدرة على المشاركة في لعبة الحياة بتوازن وتناغم ومتعة، لكننا نحتاج إلى أن نعرف القواعد والأسس». كما استطرد الدكتور روبرت قائلاً: «نحن نعايش في حياتنا ما نكون على قناعة بأننا عليه، فإذا كان نمط تفكيرنا يسير على نحو لا يمكنني أن أحصل على هذا أو ذاك؛ لأنني غير جدير به، فأنا شخص سيئ أو ما شابه، فسوف نستمر في اختلاق الظروف التي تنسجم مع أفكارنا السيئة عن مدى قصور وضعف ذاتنا». وهذا - بلا شك - يعزز من أهمية تقدير الذات واحترامها دون إغفال للمراجعة الإيجابية لجوانب القصور التي تحتاج إلى تعزيز أو تطوير أو تعليم؛ لكي نتجاوز أسباب خسارة ما بدلاً من الوقوف في فلكها الصغير غير قادرين على المضي قدماً ونسيان ماضيها التعيس وألمها الكبير. وطالما أن (الذات) ما زالت بخير، وتشعر بالتقدير تجاه نفسك وإنجازاتك الصغيرة البسيطة مقارنة بغيرك، بل إنك ما زلت تملك الرغبة في التعلم وتجاوز آثار الخسارة (أي خسارة مرت بك في حياتك)، والاستفادة منها في المحاولات القادمة، والخروج من دائرة الحسرة المنحسرة الصغيرة، فإنك حتى الآن ما زلت رابحاً ولم تخسر لتصرخ؛ فالخسارة الجزئية مؤذية، وليست قاتلة كالخسارة الكاملة لذاتك.