من المعلوم أن الأطباء كانوا ومازالوا وسيظلوا عملة نادرة في العالم أجمع. وعلى سبيل المثال، سيصل العجز في عدد الأطباء في إمريكا وحدها إلى 45 ألف طبيب بحلول عام 2020. فإذا كان هذا العجز الكبير في بلد يعد قبلة للأطباء المتميزين، فما بالك بغيرها من الدول. ولذلك ستظل السعودية ولمدة طويلة تتنافس مع دول العالم الآخرى على استقطاب الخبرات الطبية المتميزة حول العالم. ومما يحمد لوزارة الصحة رفع الحوافز المالية للأطباء غير السعوديين في السنوات الأخيرة مما جعلها في وضع تفاوضي مميز مقارنة بدول العالم الأخرى، بالإضافة لعامل خاص بالسعودية يجذب لها الأطباء المسلمين، وهو وجود الحرمين الشريفين. ولكن هناك عائقا خطيرا يفسد هذه المميزات، ويؤدي لإحجام الأطباء المتميزين عن العمل بالسعودية، كما يؤدي لتزايد عدد الأطباء الجبناء (وليسامحني زملائي على هذا الوصف) وأقصد بذلك من يمارس الطب الدفاعي (Defensive medicine) بدلاً من الممارسة الطبية المبنية على البراهين الطبية. ومن صفات الطب الدفاعي: ؟) قيام الطبيب بما يطلبه منه المريض رغم عدم احتياجه لذلك بل ربما تضرر منه، بما في ذلك اللجوء لفحوصات أوعلاجات أو تنويمات بالمستشفى غير مبررة إكلينيكياً، وبالطبع تؤدي كذلك لضياع الموارد الصحية. ؟)التردد في اتخاذ القرارات الإكلينيكية، والإكثار من تحويل المرضى لجهات أخرى رغم قدرته على مساعدته بالإمكانات المتاحة. وهذا يؤدي لتزاحم المرضى على أبواب المستشفيات الكبرى والتخصصية، وتجشمهم عناء السفر والانتظار الطويل لتحصيل خدمة صحية لا يعلمون أنها متوفرة في المنشأة الصحية القريبة من منازلهم. وهنا السؤال المهم: من تسبب في تفاقم ظاهرة الطب الدفاعي؟ وكيف حدث ذلك؟ أعتقد أن السبب الرئيسي في تفاقم ظاهرة الطب الدفاعي لدينا هو تعامل وزارة الصحة المجحف مع الأطباء عند حصول شكاوى من المرضى أو أهاليهم. وأسوأ هذه الإجراءات، منع الأطباء من السفر لبضع سنوات بانتظار نتائج تحقيقات اللجان الطبية الشرعية. ولأضرب مثالاً، وبالمثال يتضح المقال، وهي قصة رمزية متكررة. ففي أحد المستشفيات الصغيرة في السعودية، توفي مريض يناهز التسعين من عمره بعد مكوثه في العناية المركزة في ذلك المستشفى لبضعة شهور. وفوراً بعد وفاته، رفع ذووه شكوى بسوء العناية الطبية التي تلقاها الفقيد مطالبين بتعويضات مادية. بعد بضعة أيام، أتت لجنة طبية لدراسة الشكوى، وأول قراراتها منع سفر كل الأطباء الذين كان لهم علاقة ما برعاية المريض، وكتبوا ولو حرفاً واحداً في ملف المريض الطبي أثناء تنويمه بالمستشفى. ثم استمر هؤلاء الأطباء في ممارسة عملهم ورعاية المرضى الآخرين طوال مدة التحقيق الطويلة؛ رغم حالتهم النفسية السيئة كونهم محرومين من رؤية عوائلهم، ومن حضور المؤتمرات الطبية العالمية لمتابعة الجديد في مجال تخصصهم. وبعد ثلاث سنوات من التحقيق، أصدرت اللجنة الطبية قرار براءتهم مما نسب إليهم. وعندما همًّوا برفع شكوى مضادة تجاه هذه الشكوى الكيدية، قيل لهم بأن قرار منع السفر بحقهم سيمدد لحين الانتهاء من التحقيق في هذه القضية الثانية، أي لبضع سنوات أخرى؛ مما دفعهم لصرف النظر عن رفع هذه الشكوى، ثم قرروا الهرب من هذا التعسف الطبي في السعودية بأقرب طائرة وبلا رجعة. وبالطبع سيحذرون زملاءهم من الأطباء المتميزين من القدوم للعمل بالسعودية. لاشك أخي القارئ الكريم، بأن الأخطاء الطبية أصبحت ظاهرة مقلقة؛ وهناك توصيات كثيرة لتقليل حدوثها، وأغلب هذه التوصيات يُنصح بتنفيذها على مستوى مؤسسي، وأن تكون ذات صبغة وقائية وليست مجرد ردات فعل فردية، ولكن يضيق المجال هنا عن بسطها. ولذا سأطرح هنا مقاربة لحل هذه الإشكالية أقصد منع السفر. فعند الاشتباه بحصول خطأ طبي فهناك ثلاثة احتمالات: ?) شبهة جنائية، أقصد تعمد الطبيب إيذاء المريض وهذا نادر جداً. فإن اشتبهت إدارة المستشفى بذلك أو ذكر المشتكي ذلك في معرض شكواه، فهنا تُمهل اللجنة الطبية الشرعية مدة شهر للبت في ذلك؛ وفي هذه الأثناء يُمنع الطبيب من السفر وتُكف يده عن العمل. ثم إن انتفت الشبهة الجنائية بعد مهلة الشهر، فحينها يرفع الحظر من السفر فوراًً. وبعدها ربما تحتاج اللجنة بضعة أسابيع أخرى لإكمال التحقيق في شبهة الخطأ الطبي غير المتعمد. وما عدا حالة الاشتباه الجنائي، فلا يجوز منع الطبيب من السفر في أي حال من الأحوال. وبالمناسبة، فهذا الاقتراح يتوافق جزئياً مع اللائحة التنفيذية لمزاولة المهن الطبية والتي تنص على حظر السفر على الممارسين الصحيين الذين يشكلون طرفا في قضايا الأخطاء الطبية لفترات مؤقتة على أن لا يمتد منعهم من السفر لفترات تتجاوز ال30 يوماً منذ بداية التحقيق؛ ولكن للأسف لا تلتزم الجهات المعنية بهذه اللائحة. خطأ طبي غير متعمد. وهنا يجب أن تُعطى اللجنة الطبية مهلة ثلاث شهور للبت في القضية دون منع الطبيب من السفر على الإطلاق أثناء فترة التحقيق. وغالباً عند ثبوت التهمة، يُحكم على الطبيب بتعويضات مادية للمتضرر. والمعمول به حالياً، دفع شركة التأمين الحد الأقصى (نصف مليون حالياً)، ومازاد عن ذلك يدفعه الطبيب من راتبه بالتقسيط؛ مما يعني استمراره في العمل الطبي رغم أخطائه وتحت ضغط مادي بالغ مما سيؤثر سلباً على الرعاية الصحية ككل. ولذا أقترح هنا رفع القسط التأميني لكي تستطيع شركات التأمين الطبية الوفاء بمبالغ التعويضات المتزايدة، وما زاد ينبغي أن تتحمل وزارة الصحة دفعه للمريض؛ وهذا هو المعمول به عالمياً - حسب علمي- وسيدفع ذلك وزارة الصحة لتحمل مسئولياتها في استقطاب الأطباء المتميزين، وتوفير الدعم لهم بكل أشكاله لتقليل الأخطاء الطبية بوجه عام. كما أن الوزارة مطالبة بتأهيل الطبيب المخطئ، وبكف يده عن العمل إن تكررت أخطاؤه. ويأتي السؤال هنا عن احتمالية هروب الطبيب لبلده بلا عودة أثناء فترة التحقيق؟ هذا نادر الحدوث. وحتى لو حصل ذلك فقد فصلنا آنفاً كيف سيُدفع التعويض للمريض أو ذويه. وقلما يحصل ذلك لأن هذا الطبيب الهارب سيخسر مكافأة نهاية الخدمة والأهم أنه لن يحصل على شهادة حسن السيرة والسلوك الطبي من وزارة الصحة؛ وهي مهمة جداً عند التقديم للعمل بأي دولة أخرى (تشترط الهيئات الصحية في كل الدول تقديم الطبيب لشهادات حسن سيرة وسلوك لكل سنوات الممارسة الطبية منذ التخرج إلى لحظة التقديم للعمل فيها). مضاعفات طبية متوقعة. وهذه لا يمكن منعها لأنها من طبيعة العمل الطبي، ولا تخلو ممارسة طبية من احتمال حصول مضاعفات. ومطلوب من الطبيب شرح إيجابيات وسلبيات كل الخيارات الطبية المتاحة للمريض وذويه قبل أي تدخل طبي. وفي هذا السياق، يُنصح بتدريب الأطباء على مهارات التواصل الفعال مع المرضى لزيادة الرضا عما يقدم لهم من خدمات، ولتقليل معدلات الشكاوى الطبية. والله من وراء القصد