لم يكن العالم الحديث يعنى بتمويل المؤسسات متناهية الصغر بشكل فاعل ومؤسسي قبل العمل الإبداعي لحامل نوبل للاقتصاد محمد يونس الذي أسس بنك قرامين للفقراء في بنقلاديش. عند سؤالي للبرفسور يونس عن سر نجاح البنك في لقائي به في العام الماضي افادني بأنه لم يعمل شيئا خارجا عن المألوف سوى أنه أسس هذا البنك على مبادئ وسياسات تتناقض تماما مع مبادئ ووسياسات وأساليب البنوك التجارية!!! ما معنى ذلك؟ لقد قام هذا الاقتصادي المبدع بوضع سياسات وأسس للاقراض تتناقض مع سياسات البنوك التجارية التقليدية. فعلى عكس البنوك التجارية التي لا تقرض إلا الأغنياء قرر بنك قرامين أن لا يقرض إلا الفقراء. وبما أن البنوك تطالب بضمانات مالية كبيرة قرر قرامين أن يكتفي بأبسط وأيسر الضمانات التي يستطيع الفقير تأمينها. ولأن البنوك التجارية تعنى بإقراض المبالغ الكبيرة أكدت سياسة بنك قرامين على أن تكون مبالغ القروض محدودة وصغيرة جدا لتغطية استثمارات المؤسسات متناهية الصغر ( micro business )، وبما أن هدف البنوك التجارية مادي ربحي بحت وهدف المقترضين منه زيادة رساميلهم, عمل بنك قرامين على مساعدة الفقراء على الخروج من وحل الفقر والتكفف عما بأيدي الناس. الشيء الملاحظ على الاقتصاديات الحديثة أن مؤسسات التمويل والتنمية تميل لصالح الطبقة الغنية والمؤسسات أو الشركات الكبيرة، وهذا مكون رئيس في الاقتصاد الرأسمالي. ونحن في المملكة لسنا بدعا من العالم، فمعظم بل كل البنوك التجارية تهتم بالكبار وبالكيانات الكبيرة، لأن هدفها الأساس هو الربح. وإن كان من اختلاف بين بنوكنا وتلك البنوك فهو أن بنوكنا لا تقوم بمسؤولياتها الاجتماعية على الوجه المطلوب وقد تم الحديث عن تقصيرها الواضح تجاه المسؤولية الاجتماعية. وليس هذا هو موضوعنا اليوم فقد تحدثنا عن ذلك في مقال سابق. لكن الرسالة التي أردت التذكير بها في هذا المقال هي أن التركيبة الديموغرافية لمجتمعنا تتطلب مراجعة هيكل المؤسسات المالية والتمويلية. فمجتمعنا على خلاف المجتمعات في الدول المتقدمة مجتمع شبابي يمثل فيه الشباب أكثر من 70? وتمثل فيه المؤسسات الصغيرة ومتناهية الصغر أكثر من 90? وبالتالي فإن المحرك الاقتصادي يرتكز بشكل كبير على المبادرين وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وهنا تكمن المشكلة لأن هيكل المؤسسات التمويلية بوضعه الحالي لا يدفع بهذا الاتجاه ولا يساهم في دعم تلك المنشآت. إذا ماهو الحل؟ أعتقد أن الأمر يتطلب إيجاد حزمة من الحلول المتعلقة في السياسات المالية، قد يكون في مقدمتها إنشاء بنك للمبادرين وأصحاب المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر على غرار بنك الفقراء (غرامين) في بنقلاديش، تشترك في رسملته الحكومة والقطاع الخاص ويدار بأسلوب حديث بعيدا عن التعقيدات البيروقراطية التقليدية. يقوم على إقراض الأسر المنتجة والمؤسسات متناهية الصغر والصغيرة بأسلوب مرن يتناسب ومعطيات الفترة الحالية ومتطلبات التوظيف وتوطين الأعمال. آمل أن يجد هذا المطلب الوطني الملح قبولا لدى متخذي القرار خاصة وأنه يتعلق بالطبقة محدودة الدخل التي تحظى بعناية خاصة من القادة. والله الهادي إلى سواء السبيل،،،،