كنتُ في شوق إلى الجلوس إليه، والاستماع لشيء من سيرته ومسيرته، قلت لابنه الصديق حامد بأن زيارة الوالد شرف أنتظر الظفر به قريباً، سمعت عن سيرته العطرة مع كل من قابلته من أهل منطقة عسير، من يعرفه ومن لا يعرفه ناله شيء من عاطر سيرته ونفحات من جميل فعله، عطاء للآخرة لا يعرف الكلل، منذُ أول يوم بدأ حياته العملية محاولاً أن يعيش ويعيش أهله ببضاعة بسيطة يتنقل بها بين أكثر من مكان، وإن كانت محايل عسير هي المقر والمستقر، باع يوماً كل ما يملك لله، مذكّرنا بعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان فرحاً بالبيع رغم عذل العاذلين.. إيمانه اليقيني بأن البيع مع الله هو البيع الرابح، وألا مثيل له حيث تعود البضاعة أضعافاً مضاعفة، ليست بموجب بوليصة تأمينية ولا ضمانات بنكية، ولكنها بموجب وعد رباني صادق الثبوت: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا}.. يفعل ذلك وكأنه يستمع لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لأبي الدحداح: بخ بخ ربح البيع أبا الدحداح، كأنني به يستحضر هذا البيع وهو يتاجر مع الله ودمعته تسابق فرحته بانتصاره على نفسه بإتمام هذه الصفقات. عشرة عقود مرت على الشيخ الزاهد العابد المنفق إدريس بن عبد الله فلقي وهو بين محرابه ومتاجرته مع ربه، بين مدرسة لتحفيظ القرآن ودور للأيتام، وإنفاق على الأرامل والمساكين، فحق لكل هؤلاء اليوم أن تذرف دموعهم على والدهم ومعينهم على نوائب الدهر، فمن يا ترى يكفكف دموع هؤلاء؟.. أسأل الله أن يجعل في عقبه من يبقي هذا العطاء وهذه المشاريع الخيرية كما هي بل يزيد. رحل الزاهد العابد وهو ما زال يواصل بذله وعطاءه، ونال شرف اليوم (الجمعة) حيث فاضت روحه لبارئها صباح الجمعة وصُلي عليه بعد صلاة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة، فتحقق له مراده بأن يكون في أقدس البقاع وأطهرها. إن الثري الحقيقي هو من وفقه الله للمتاجرة معه سبحانه وتعالى حيث الربح المحقق والثراء الباقي والرفعة المنتظرة حيث مقاعد من نور يوم القيامة، وأبواب مشرعة للمنفقين في سبيله المبتغين لنعيمه. زرت محافظة محايل عسير مرة واحدة على عجل فكانت سمعة هذا الرجل كأجمل ما يكون عطر بساتين الورود، فالعابدون يغبطونه على عبادته، والمنفقون يغبطونه على إنفاقه، والزاهدون يغبطونه على زهده، الكل يراه لهم سابقاً، وللفضل حائزاً. رحل الشيخ إدريس بن عبد الله فلقي بعد ما يقارب مائة عام قضاها كما أسلفت بين محرابه ومتاجرته مع ربه، بكل هدوء، مخلفاً ذكراً حسناً وسيرة عاطرة تُروى لتكون نبراساً لكل من أعطاه الله المال بأن تكون متاجرته الحقة مع ربه، حيث البيع الرابح بوعد من لا يخلف الميعاد. اللهم تقبَّل عبدك في زمرة الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وأحسنَ الله لكل الأبناء والبنات العزاء وجمع شملهم ووحّد مسيرتهم كما كان والدهم مثالاً يُحتذى.. والحمد لله رب العالمين.