إن الوعي بالتراث لأمر حيوي لقياس درجة وعي الأمم واهتمامها بجمعه والحفاظ عليه إذ أن التراث هو خلاصة خبرة المجتمع في تفاعلاته من بيئته. والدعوة للاهتمام بالتراث ليست ضرباً من ضروب التعصب، أو دعوة للجمود والتخلف، بل بالعكس إنها دعوة إلى الأصالة، وإلى إحياء الحضارة، فما لا أصل له من النبات تذروه الرياح، ومن المجتمعات من لا قيم له ولا مبادئ، ولا دعائم يقام عليها البناء. وليس كتراثنا العربي الإسلامي تراث في اتساعه وخصبه، وفي شموله ودلالاته، وعمقه وبعد مراميه، وقد تجمع على مدى طويل، وبعد جهد عظيم فأوفى على الغاية، ولم يترك زيادة لمستزيد.. غير أن ما بأيدينا منه إلا النزر اليسير، وقطرة من بحر، وقليل من كثير وغيض من فيض، وما علينا إلا أن نتمسك بهذا القليل كي لا يضيع كما ضاع من قبل الكثير. لقد أصيبت المكتبات بما قضى على ملايين الكتب منها بحيث فقدها العالم إلى الأبد وهي من أثمن ما خلفه الفكر الإسلامي فنكبة التتار حين دخلوا بغداد أصابت هذه المكتبات قبل أن تصيب أي شيء غيرها فقد قذفوا ما وجدوه من الكتب في نهر دجلة حتى فاض النهر بالكتب الملقاة فيه فكان يعبر الفارس عليها من ضفة إلى ضفة وظل ماء النهر أسوداً داكناً أشهراً طويلة من تغيره بمداد الكتب التي أغرقت فيه. ونكبة الغزو الصليبي أضاعت أعز المكتبات في طرابلس والقدس وغزة وعسقلان وغيرها من المدن التي خربها الصليبيون وقد ذكر المؤرخون أن ما أتلفه الصليبيون في طرابلس وحدها بثلاثة ملايين مجلد ونكبة استيلاء الاسبان على الأندلس فقدت فيها المكتبات العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ بذهول فقد احترقت مئات الكتب حتى إنه أحرق في يوم واحد في ميدان غرناطة ما قدره بعض المؤرخين بمليون مجلد هذه إيماءة موجزة حول نهاية ما انتهت إليه تلك المكتبات الحافلة بالتراث الإسلامي المجيد. إن تراث الأمة هو عنوانها وجوهرها وأصالتها، ونهضة كل أمة لا تقوم إلا على أساس من فكر عميق ومستنير، وأن عظمة الأمم تعتبر بتاريخها وتراثها وعلمها. وإن الحديث عن التراث وإحيائه لهو وفاء للماضي ودعم للمستقبل واستنباط العبرة منه لما يزخر به من معطيات حضارية، ولعل من نافلة القول الإشارة إلى بيان قيمة التراث العربي الإسلامي إذ هو غني في نوعيته وكمه ويعتبر في قمة الإنتاج الفكري وذروة العطاء العلمي رفعة ومجداً.