منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية أواخر القرن الخامس للميلاد سيطر على أوروبا ظلام دامس بضعة قرون، وهي مرحلة طويلة نصفها الأول عصر الآباء (منذ القرن الخامس حتى العاشر) ونصفها الثاني عصر المدرسين. وجاهر مؤرخو الفكر بأنّ أوروبا حتى العصر المدرسي، لاسيما بين عامي 1000 و1300، كانت بيئة غير صالحة لنشأة العلم، لأنّ العلوم لا تنشأ في أرض تنتشر فيها الأمية، ويشيع فيها السحر والخرافة. وصاحَبَت هذه الظواهر قلّة الكتب وندرة المكتبات والمدارس، وفوضى الجامعات، وفساد الأخلاق. ويروي المؤرخون أنّ أحد محبي العمل من رواد حركة إحياء الآداب القديمة في القرن الثاني عشر، برنار دو شارتر، ترك وراءه مكتبة تضم 24 مجلداً. أما إيطاليا، فكانت أغنى من فرنسا، ولهذا اقتنى أكبر رجال القانون أوكيرسيوس 63 كتاباً، وكانت أغنى مكتبة في أوروبا كنيسة «كانتربري» وكانت تضم في عام 1300 خمسة آلاف كتاب، وأما غيرها من المكتبات الكبيرة، فكانت في العادة لا تحوي أكثر من مئة مجلد، باستثناء مكتبة «كلوني»، التي حوت في القرن الثاني عشر 570 كتاباً. والمقارنة بين هذه الأرقام وبين المكتبات في حواضر الإسلام تلقي ضوءاً على الهوة السحيقة التي كانت تفصل بين العالمين في مجال العلم، فعلى سبيل المثال، ضمّت دار الكتب في قرطبة، التي أنشأها الحاكم بن الناصر، 200 ألف مجلد، وقيل 400 ألف، وكانت فهارسها تستغرق 44 كراسة في كل منها خمسون ورقة ليس فيها إلا عناوين الكتب. وضمّت حواضر الإسلام في العالم العربي مثل هذه المكتبات الفنية الخصبة، بل قامت إلى جانبها مكتبات خاصة زخرت بآلاف المجلّدات، فمكتبة أبي الفداء في النجف (العراق) كانت تضم نحو 70 ألفاً، وخلّف الواقدي مكتبة تضم 600 صندوق لا يقوى على نقل الصندوق منها رجل بمفرده، وكانت مكتبة ابن المطران (طبيب صلاح الدين الأيوبي) تضم عشرة آلاف مجلد، وكانت المستشفيات إلى جانب المساجد والمدارس تغصّ بالكتب العلمية، والطبية منها بوجه خاص لأنها كانت دوراً للعلاج ومعاهد لتعليم الطب. وبلغ الشغف باقتناء الكتب في العالم الإسلامي ذروته في الفترة التي امتدت من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر للميلاد. فهل من العجب بعد الذي بينّاه أن تلجأ أوروبا حين تنشد اليقظة إلى حواضر الإسلام في الأرض الأوروبية لتنهل من معينها وترتوي من ينابيعها العقلية والروحية؟ أما مناطق الأخذ والتلقيح فكانت في منطقتين: صقلية جنوب إيطاليا، وخصوصا في عهد ملوك النورمانديين وأشهرهم روجر الثاني 1154 وفريدريك الثاني 1250، ثم في بلاد الأندلس، وخصوصاً طليطلة منذ النصف الأول من القرن الثاني عشر. وكانت صقلية وبلاد الأندلس تحت حكم العرب، الذين أشاعوا في ربوعها العلم والحضارة والعدل والتسامح الديني. ففي صقلية بدأت حركة النقل الأولى منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر. وكانت الجزيرة تحت حكم العرب منذ عام 120 هجرية، واستمر حكمهم لها 272 عاماً، فملوكها النورمانديون كانوا حماة عظاماً للعلوم، ولاسيما روجر الثاني، الذي حكم بين 1130 و1154. وقد سمع بأعظم الجغرافيين الشريف الإدريسي، فاستدعاه إلى بلاطه وأغدق عليه النعم وأمر أن تفرّغ له كرة من الفضة ضخمة وزنها 400 رطل، ورسم عليها الإدريسي الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وسبلها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاريها ومنابع أنهارها، وطلب الملك من الإدريسي أن يضع كتاباً عن هذه الكرة الأرضية، فكان كتابه المعروف «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق». تأثير مستمر وظل التأثير العربي واضحاً طوال حكم النورمانديين، وأنشأ روجر ديواناً للترجمة يعمل فيه علماء من المسلمين والنصارى واليهود معاً، وفيه نقلوا العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية. وازدهرت هذه الحضارة في عهد فردريك الثاني، وقد تسامح وغيره من ملوك النورمانديين مع المسلمين وتبنّوا حضارتهم ونقلوا علومهم، فنشأت في صقلية حضارة قوامها اللغات اللاتينية واليونانية والعربية. وفي عهد غليوم الأول ابن روجر الثاني، ازدهرت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وكان مما تُرجم كتاب «الماجصطي» لبطليموس حوالى سنة 1160، وشارك في الترجمة من العربية جيرار الكريموني 1178، فترجم أكثر من سبعين كتاباً عربياً في الفلك والجبر والحساب والطب. واهتم فريدريك الثاني بالحضارة الإسلامية، وأسّس في نابولي أول جامعة للدولة هي جامعة «بلنسية» 1212-1214 التي عنيت بالدراسات الطبية، وسنّ لها فريدريك لائحة خاصة بها تمنح كل دارس فيها إجازة هي الأولى تاريخياً في أوروبا. ولشدة ولع فريدريك بالحضارة الإسلامية، صبغ بلاطه بصبغة إسلامية، وكان هو نفسه يحرص على الظهور بملابس إسلامية. وهكذا، كانت صقلية -التي ازدهرت فيها حضارة العرب وعلومهم- مركزَ إخصاب لقّح فيه الفكر الإسلامي الفكر الأوروبي. وأبان سودهوف في كلمته التي افتتح بها الاجتماع السنوي الرابع للمجمع العلمي لتاريخ العلوم، فضلَ قسطنطين، أولِ وسيط للعلم الإسلامي إلى أوروبا المسيحية، وكشف أهمية الدور الذي نهض به في نقل التراث العربي إلى أوروبا. ولا بدّ من أن نشير إلى أشهر العلماء اللامعين في الأندلس في نهضتها العلمية منذ القرن العاشر وما بعده، من هؤلاء ابن مسرّة القرطبي (931) وأبو القاسم المجريطي المتوفى في قرطبة عام 1007، وقد كتب في الإسطرلاب، وأبو القاسم الزهراوي 1013. وكان من أشهر جراحي العرب في العصور الوسطى كلها، وألّف دائرة معارف طبية تحت عنوان «التصريف لمن عجز عن التأليف» تناول فيها الطب والصيدلة والجراحة، وضمن الجراحة ثلاثة أجزاء نالت أسمى درجات التقدير عند شعوب أوروبا المسيحية، وفيه صور قيّمة لكثير من أدوات الجراحة لعلاج الكي وعمليات الشق وأمراض العيون والأسنان والحصاة والفتق والنساء والتوليد والرضوض وتجبير ضروب الخلع والكسر وغير ذلك. ومن الرياضيين والفلكيين «أبو إسحاق إبراهيم النقاش» المشهور ب «الزرقالي» (1017)، الذي اخترع الإسطرلاب المعروف باسم الصفيحة. وازدهرت الحياة الفكرية في الأندلس في القرن الثاني عشر فكانت قبلة علماء أوروبا يحجّون إليها وينقلون تراثها من العربية إلى اللاتينية. وفي فن العلاج الطبي اشتهرت أسرة ابن زهر التي أنجبت سلسلة من مشاهير الأطباء أشهرهم أبو مروان بن أبي العلاء زهر، وكان أعظم طبيب عيادي بعد الرازي يمارس العلاج في المستشفيات، وينسب إليه وصف لعلاج قمل الجرب الذي لم يعرف في أوروبا إلا عام 1687. ثم أعظم الصيادلة العرب في ما يقول ماكس مايرهون وهو أبو جعفر الغافقي 1165، الذي وصف كتابُه عن الأدوية المفردة النباتات وصفاً بالغ الدقة مع ذكر أسمائها بالعربية واللاتينية والبربرية. ثم أمين العوام الأشبيلي، وله أهم كتاب عربي في الملاحة يجمع بين التبحر في العلم اليوناني والعلم العربي. وتبين المعارف العلمية العميقة التي أفادها من تجاربه المباشرة، ومن هذا وصف دقيق لعدد يبلغ 585 نوعاً من النباتات، منها 55 من الأشجار المثمرة مع 367 صورة ملوّنة لنباتات وحيوانات. ويرى ماكس مايرهون أنّ هذا أحسن كتاب عربي في العلوم الطبيعية، وخصوصا في علم النبات. نهضة أوروبا وعرفت أوروبا المسيحية كل هذا التراث العربي الإسلامي وأفادت منه في وقت كانت تهم باليقظة وتلتمس أسباب النهوض بعد سبات طويل. وبلغت مدينة طليطلة الذروة كمدينة للنور والعلم في عهد ألونس الحكيم، واستمرت حركة الترجمة فيها أكثر من قرن، ونقل المترجمون العلوم العربية. وكان في مقدم المترجمين دومنغو جو فصالية، الذي نشط بين عامي 1130 و1170، وبين مترجماته بعض مؤلفات الفارابي وابن سينا والغزالي وكتب الخوارزمي، التي انتقل بفضلها إلى أوروبا الحساب الهندي فعرفت العمليات الحسابية باسم اللوغاريت. وإلى جانب مدينة طليطلة، احتلت «فضلونيا» مكاناً عظيماً، فازدهرت فيها نهضة علمية مرموقة قامت على حركة نقل للأفكار والمعارف العربية الإسلامية. وكان بين المترجمين الأقدمين يوحنا الأشبيلي ودومنيغو جوندينر. ومن بين الكتب العربية التي نقلت كتب في الحساب والفلك والنجوم والطب والفلسفة، وكان من أشهر المترجمين من العربية إلى اللاتينية وأنشطهم جيرار الكريموني 1187 الذي ترجم الماجصطي في الفلك وغيره من مؤلفات اليونان المعروفة في اللغة العربية. ويروي المؤرخ جورج سارتون أنّه ترجم من العربية كتباً في الفلسفة والمنطق والرياضة والفلك والطبيعيات والميكانيكا والطب والنجوم والصنعة وغيرها. ومنذ النصف الأخير من القرن الثالث عشر برز دور ألونس الحكيم، الذي لم يكن حامياً مستنيراً للعلوم ومترجمها فحسب، بل كان هو نفسه عالماً أنشأ المجموعة الفلكية الضخمة وغيرها. ومثله حفيده الملك ديبنس، الذي أمر بترجمة الكثير من الكتب العربية إلى البرتغالية. هكذا شكّل اللقاح العربي الإسلامي الذي قدّمه المترجمون بدءاً من القرن الثامن حتى نهاية القرن الثالث عشر إخصاباً لثقافة أوروبا المتخلّفة في ذلك الوقت، وبهذه الطريقة تسلّل العلم العربي الإسلامي إلى أوساط العالم الغربي، ونجح في تلقيح العلم الحديث الأوروبي الذي أخذ في التولّد والنشوء والارتقاء. * كاتب لبناني