بقلوب مفعمة بالإيمان ونفوس مشرئبة إلى الرحمة والغفران وفي مساء حزين قاس ودعنا أعز إنسان وأكرم مقيم وراحل عن هذا المكان، إن فراق الأحبة مؤلم دون ريب ولكن رحيل أعز الأحبة أعز إنسان (الأم) يعد بحق أكثر قسوة وألماً من أي مصاب آخر. إنه يجتاح المشاعر ويسيطر على الوجدان ويلجم الفكر واللسان. ومع أن الموت هو النذير القادم الذي لا شك في حضوره والغائب المحتم لقاؤه - ومع أن الإيمان بقضاء الله وقدره لا يرد فإن الإنسان لا يملك إلا الشعور بصدمة الحدث وبالحزن والألم يمزّقان قلبه وأحشاءه - إن الموت أشد فواجع الدهور ألماً وأكثرها فجيعة لأنه رحلة لا عودة منها وفراق لإلقاء يعقبه في هذه الدار - وفوق ذلك كله تبقى روح الوالدة حيَّة راسخة في الذهن والفكر والجنان مؤكّدة حضورها الدائم في الزمان والمكان. في ليلة من ليالي الأسبوع المنصرم وقبيل منتصف ليلة الأحد الثاني من شهر ربيع الآخر 1435ه المصادف لليوم الثاني من شهر فبراير 2014م رحلت عن دنيانا والدتنا العزيزة الغالية وأسلمت روحها لبارئها - وهو المصير المحتوم لجميع البشر كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). لقد كانت والدتي - أسكنها الله فسيح جناته- ظلاً وارفاً ونفساً هانئة وأماً حانية ومربية ناصحة، كانت نبراساً مضيئاً في حسن الخلق ورحابة الصدر وقوة الإرادة وصدق النيَّة وسلامة الطوية وصفاء السريرة واصلة للرحم كاظمة للغيظ. ومع أنها - رحمها الله- ولدت وترعرعت في زمن وموطن لم تتوافر له آنذاك سبل التعليم الحديثة فلم تلتحق بمدرسة ولم تكن تجيد القراءة والكتابة ولكنها - كقريناتها - اقتبست من حياتها ومحيطها ما أمكن، وكانت ملمة بالكثير من المواقع والأحداث تختزن ذاكرتها الكثير الكثير من القصص والروايات والأشعار والأمثلة المؤثّرة النابضة بالحياة والحيوية الداعية إلى مكارم الأخلاق. وكان لذلك أثر واضح في مقدرتها على فهم وإدراك ما يطرأ من تغيُّرات في السلوك الاجتماعي ومظاهر الحياة، كانت كثيراً ما تنصت من خلال المذياع إلى تلاوة القرآن والأحاديث ومتابعة الأخبار المحلية والإقليمية، كانت - رحمها الله- أكثر انفتاحاً وتسامحاً وعفوية، كانت عفيفة بلا زيف مؤمنة متعبدة دون رياء، تقية دون ادّعاء، مؤمنة صابرة محتسبة. وقد رزقها الله بنين وبنات وأحفاداً كانت لهم جميعاً ملجأ وملاذاً بالنصح والإرشاد والتوجيه والعطف والحنان يستوي في ذلك صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم - محبة للجميع حريصة على انتظام اللقاءات معهم ومع آخرين من الأسرة ومن الأرحام والأقارب، وكانت تكرر دائماً العبارة التالية (الجَمْعَة معزّة). وعندما وافها الأجل المحتوم كان إلى جوار مرقدها العديد منهم - أبناؤها وبناتها جميعهم إضافة إلى عدد من أحفادها وأبناء وبنات الأخوال والخالات- رحمها الله رحمة واسعة وجزى الله من عانى كثيراً في العناية بها ورعايتها أثناء مرضها الأخير خير الجزاء. أمام رهبة الحدث في فقد أعز إنسان استسمح الشريف الرضي: محمد بن الحسين المتوفى سنة 406ه في أن اقتبس من قصيدة رثائه لأمة الأبيات التالية: أبكيك لو نقع الغليل بكائي وأقول لو ذهب المقال بدائي وأعوذ بالصبر الجميل تعزيا لو كان بالصبر الجميل عزائي طوراً تكاثرني الدموع وتارة آوى إلى أكرومتي وحيائي كم زفرة ضعفت فصارت أنّة تممتها بتنفس الصعداء ما كنت أذخر في فداك رغيبة لو كان يرجع ميت بفداء وتفرّق البعداء بعد مودة صعب فكيف تفرّق القرباء ذخرتْ لنا الذكر الجميل إذا انقضى ما يذخر الآباء للأبناء رحمك الله يا أماه رحمة واسعة وأسكنك الفردوس الأعلى جزاء ما خلفت لنا من ذكرى حسنة.. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}..