نعم صاحب المعالي، فقد كان صاحب المعالي طول عمره؛ قبل أن يصبح معالي الوزير، وعندما كان وزيرا، وبعد أن ترك الوزارة، ثم سيظل صاحب المعالي في ذاكرتنا بعد وفاته: (علو في الحياة وفى الممات)... وذكر عابق بالطيبات. لقد شعرت وأنا أتلقى خبر وفاته المفاجئة كأن جبلا شاهقا منتصبا أمام ناظري قد انهد فجأة، فلم أعد أرى إلا هوة عميقة في الأفق. لم أرغب أن أصدق أن هذا الرجل الذي كان ملء السمع والبصر -في مجالسه، في كتاباته ومحاضراته، في علاقاته الشخصية والاجتماعية- قد مات. لكنها الدنيا، هي فانية ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام. منذ عرفته صغيراً -حيث تربطنا صلة قرابة وجوار- كان يتميز بالنباهة والحيوية، وشغوفا بدروسه. وكان محبا لوالديه ؛ فقد أكرمه الله بوالدين حنونين، جمعا بين كرم المحتد ونبل الخلق وإجادة التربية وقوة العقيدة. لذلك نشأ حاملا أصالة البيئة المحافظة وعلو الهمة وتوقد الفكر. تفوق في دراسته في المعهد العلمي بالمجمعة ثم في كلية اللغة العربية بالرياض. لكن طموحه لم يقف به عند حد الشهادة الجامعية، بل أراد أن يرتوي من مناهل العلم الحديث. فبعد أن عمل معيدا في كلية التربية بمكة المكرمة ابتعث إلى الولاياتالمتحدة لنيل درجة الماجستير ثم درجة الدكتوراه في الإدارة التربوية. وهكذا ارتقى أعلى مراتب العلوم التربوية على أساس مكين من أصول العقيدة والتربية الإسلامية. وهكذا سار أيضا على درب حياته العملية بعد أن عاد من الولاياتالمتحدة. فلم يكن مغرورا بشهادته العليا، ولم يكن مرتديا لباس الحياة الغربية. بل عاد وطنيا مهموما بحال مجتمعه ومتشوقا لخدمة وطنه، ومستنيرا بحكمة صاغها لتكون قالبا يشكل نشاطاته التربوية: (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة). ما حل بموقع مسئولية إلا كان هاجسه الأول تطوير أساليب التربية والتعليم. في أثناء عمادته لكلية التربية بجامعة الملك سعود عجل بتحديث النظام الدراسي وطبق نظام الساعات، وأنشأ مركز الوسائل التعليمية؛ وفى مكتب التربية العربي لدول الخليج استعان بكبار العلماء والخبراء في ترجمة وتأليف أمهات الكتب في الحقل التربوي والفكر الإسلامي، وأنشأ مجلة للبحوث العلمية، وجاهد حتى تم إنشاء جامعة الخليج ومقرها البحرين، وكان يتابع بنفسه ويقابل رؤساء دول الخليج من أجل إزالة العقبات التي تؤخر قيامها - ولا سيما العقبات المالية التي كادت تعصف بها. وفى مجلس الشورى (1414--1416ه) تبنى مشروع إصلاح التعليم واقترح إجراء تقويم شامل للتعليم في المملكة. وعندما أصبح وزيرا للتربية والتعليم (المعارف سابقا) عام 1416ه واصل جهوده ولكن من موقع مسؤولية أكبر، ومن موقع صاحب رسالة وليس صاحب منصب أو عاشق سلطةولم يكن يحب المركزية، ولم يكن يعمل كرئيس بيروقراطي بل كقائد فريق. وظلت الرسالة التي يحملها في ضميره أن يصلح العملية التربوية والتعليم من أجل تمهيد الطريق المؤدى إلى بناء الأمة العظيمة. وكانت البادرة الأولى أن عرض على المقام السامي وفاز بالموافقة على تشكيل فريق من الخبراء المرموقين لإجراء تقويم شامل للتعليم في المملكة. وفي ضوء رؤية شمولية غطت معظم - إن لم يكن جميع - جوانب العملية التربوية والتعليم صارت برامج ومشروعات الإصلاح والتطوير تتوالى، وكلها تلتقي على نفس الطريق متجهة صوب نفس الهدف. ومنها -على سبيل المثال- التقويم الشامل للمدرسة، إدخال منهج التربية الوطنية، إدخال اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي، دمج طلاب التربية الخاصة مع طلاب التعليم العام، توحيد المناهج العامة بين تعليم البنات وتعليم البنين، تحديث مناهج العلوم الطبيعية وتحسين مقررات التربية الإسلامية من أجل تقريب فهمها واستيعابها للطلاب والطالبات. ولعل من أهم البرامج التي تستحق التنويه برنامج تنمية مهارات التفكير الذي يراد به تدريب المعلمين على التعليم بأسلوب يستحث التفكير والبحث لدى الطلاب، والذي ينطلق من فكر عميق وبعد نظر يرى في أسلوب التلقين والتركيز على الحفظ أكبر عقبة تجابه التربية العظيمة. ومن الخطوات التي تسير في نفس الاتجاه -وهو تنمية التفكير والابتكار- إنشاء مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين عام 1419ه. وقد حظي المعلمون بأولوية اهتمام معالي الدكتور محمد الرشيد الذي شدد دائما على قيمة المعلم ودوره في العملية التربوية في رسائله ومحاضراته ولقاءاته، واهتم بصفة خاصة بتدريبهم وإيجاد بعض المزايا لهم مثل بطاقة المعلم. ومن أجل المعلمين أعاد إصدار مجلة المعرفة التي كانت تمثل مصدرا ثرا للثقافة التربوية ونقلت إلى قرائها تجارب التعليم في أكثر من (22) دولة. هذه البرامج والمشروعات وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره لم تكن كلها تؤخذ بالقبول من الجميع، بل لاقى الدكتور محمد الرشيد في سبيلها من سوء الفهم والاعتراض ممن لا يرضون بالتغيير ولو كان إلى الأحسن - ما لا قبل لأحد به إلا إذا كان صاحب رسالة وصادقا وصحيح العزم، كما كان هو.وقد صبر وثابر، ولم يكن من عادته الشكاية إلى ولي الأمر كلما واجه عقبة أو اعتراضا، بل كان يقابل العلماء ويناقش ذوي الآراء المخالفة. ومنذ أن ترك الوزارة قبل تسع سنوات ظل كما بدأ صاحب رسالة ورؤية بعيدة، فواصل تبليغ رسالته التربوية في مجالسه ومحاضراته وكتاباته. وقد رأى بأم عينه أن ما اقترحه أو قرره خلال توليه الوزارة وصادف عدم قبول من بعضهم أو عقبات في التنفيذ قد أصبح الآن قيد التنفيذ أو موضع الاستحسان وأنه عين الصواب. ولعل تغريدة الدكتور المفكر والداعية الإسلامي سلمان العودة تمثل شهادة حق تثبت ذلك: (لم يعرف الناس قدرك حتى غادرت الوزارة، فأثنى عليك مخالفوك ومحبوك).