القارئ لمنجز نجيب محفوظ يجد أن المكان غالبا هو البطل في كل حكاية، وبمهارة محفوظية فريدة استطاع أن يربط بين الفرد وذاته من جهة، وبين مجتمعه وباقي الشخصيات حوله من جهة أخرى، و المكان هو الرباط المقدس لهذه العلاقات كلها، بين بواطن الإنسان الداخلية بكل ما يعتلجها من صراعات نفسية وفكرية واجتماعية، وبين كل شخصية ونظيرتها من شخصيات الرواية، وبين شخوص الرواية بأكملها، فيكشف المكان النقاب عن مأساة هذه الشخوص صورة الصراع داخل الرواية التي هي إحدى مخرجات هذا المكان بكل ما فيه من مؤثرات. ويدلنا على ذلك قول د. نبيل راغب: «إن الذي يدفع نجيب محفوظ إلى أن يجنح إلى الرواية الاجتماعية، هو أن البطل الحقيقي في رواية زقاق المدق ليس حميدة، أو عباس الحلو، أو فرج إبراهيم، إنما هو الزقاق نفسه، وباقي الشخصيات في الرواية لا تقوم إلا بدور الأبعاد المجسمة للتكوين الاجتماعي والنفسي للزقاق(1). ومن النقاد من تبتعد تصوراته لأبعد من البطل الحقيقي حميدة أو الزقاق، يرى أن حميدة هي رمز للمكان، وهذا المكان هو مصر، وهذا هو تحليل رجاء النقاش التي رأت في حميدة رمزا لمصر كلها التي حينما خضعت لمدينة الاستعمار فحكمت بهلاكها، ويورد عبد المحسن بدر هذا الرأي في كتابه نجيب محفوظ الرؤية والأداء ثم يحكم عليه فيقول: «وفي اعتقادي أن هذا التفسير يبدو معقولاً إلى حد كبير»(2) وهذا الرأي يُعترض عليه، فقد يقبل المنطق أن نجعل حميدة ترمي إلى أن التحرر من القيم والبحث اللاهث وراء المادة يجلب الهلاك، وهكذا كان حال مصر حيثما خرجت من قيمها بسبب بريق المدنية المزيفة التي جاء بها الاستعمار وغرس سمومها فيها، لكن لا يمكن أن يقبل المنطق أن تكون شخصية حميدة رمزا لمصر، وفي وصف نجيب محفوظ لها ما يرفضه الضمير العربي، فهل يمكن أن تكون حميدة التي وصفها محفوظ يقول «عاهرة بالسليقة»(3) هي مصر هل يمكن أن تكون مصر هي رمز للجمال الخارجي والقبح الداخلي؟! أما فيما يتعلق بالوقوف لتتبع ملامح الزقاق وصورته بحثاً وراء دوره في التكوين النفسي لشخصية لحميدة بوصفها مثالا على امتزاج الشخصية بالمكان يُلحظ قول السارد: «تنطلق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري...»(4). ثم ينقل القارئ دون تمهيد إلى صورة متناقضة تماما عن ظواهره الحالية: «أذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب زاد من سمرتها عمقاً إنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة له باب على الصنادقية ثم يصعد صعوداً في غير انتظام تحف به دكان، وقهوة، وفرن، وفي الجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعاً كما انتهى مجده الغابر ببيتين متلاصقين»(5). ومثل هذه الصورة ذات الملامح الخارجية تفصح عن أسرار كراهية حميدة لهذا المكان فكل ما فيه يوحي بالضيق الذي يمتد حتى إلى منزلها الذي تعيش فيه كل ذلك جعلها تشعر بالاغتراب المكاني حيث لا والدين تعيش في كنفهما ولا بيئة مهيأة لحياة كريمة؛ لذا غدا هذا المكان بالنسبة لها خالياً مقفراً من أسباب السعادة، وهي تبحث دوما عن الخروج منه فجعلها الكاتب يوميا تخرج بعد العصر خارج الزقاق تبحث عن حياة جديدة، في حين هذا الخروج باستمرار خارج عن عادات الحياة في الزقاق، وهذا ما قاله عباس الحلو في حديثه مع أخيها حسين بالرضاعة فقال: «أختك حميدة فتاة كريمة ولا يعيبها أن تروِّح عن نفسها بالمشي في الموسكي»(6). فقد كانت دائماً تهرب من سيطرة هذا الزقاق لتستسلم لخيالها الذي كان دائماً يتطلع إلى مكان الحلم يقول باشلار: «في الحياة حين تبحث عن مكان تأوي إليه أو تحتمي فيه تلجأ إلى الخيال الذي يتعاطف مع الكائن الذي يسكن المكان المحمي فيجعله يعيش تجربة الاحتماء بكل تفاصيل الأمان والحماية الدقيقة»(7). فهذا الزقاق هو الذي أعمى عينيها، وران على قلبها، فلم تشعر بوجود عباس الحلو الذي أحبها بصدق، وكان الشاب الوحيد في الزقاق الذي يليق بها كزوجة إلا أن خيالها دائماً كان يتخطى حدود الزقاق إلى عالم جديد خال من الفقر والعوز والمذلة؛ ولذلك دفعته ليترك الزقاق ويذهب للعمل في الجيش الإنجليزي. وهذا الزقاق هو الذي شكل الحلم في مخيلتها، وظل يكبر بمرور الأيام، حلم الانعتاق إلى مكان أكثر فسحة وزينة؛ لذلك تهافتت على القوّاد الأفندي فرج إبراهيم عندما استشعرت أنه من خارج الزقاق، ووجد فيها فرج إبراهيم فريسة سهلة تأتي إليه طواعية، وأشعل خيال الشهرة في قلبها «طالما اختنقت في هذا البيت، هذا الزقاق وهيهات أن يعتقها عائق بعد اليوم عن الانطلاق إلى النور والجاه والسلطان، وهل من سبيل إلى الإفلات من رقبة الماضي إلا على يد هذا الرجل الذي أوقد في خيالها ناراً»(8). هذا الزقاق هو الذي يذكرها أنها معدومة اليدين والأبوين، فظلت تتساءل: «أيمكن يا ترى أن تبلغ يوماً ما تتمنى.. فهي لا تنسى قصة فتاة من بنات الصناديقة كانت فقيرة في الأصل مثلها ثم أسعفها الحظ بزوج ثري»(9). فحميدة ترفض الرضوخ لهيمنة زقاق المدق وسلطويته على حياتها، وهي تبحث عن وسائل ناجعة تخرجها من دائرية الانغلاق في مكانها القديم وتخرجها من سلطة المكان الذي تكرهه. وقد وجدت ضالتها المنشودة في المكان الجديد الذي حسبته باباً للفرج الذي سترتاح حين تدخل منه... وحين تدخل باب الفرج المنشود فهي تترك زقاق المدق إلى الأبد بالرغم من كل ذكرياته: «وغادرت البيت تلوح في وجهها علامات الجد والاهتمام، وقطعت المدق آخر مرة لا تلوي على شيء، وسارت من الصنادقية إلى الغورية، ثم انعطفت صوب السكة الجديدة وتقدمت في خطوات متمهلة وأرسلت بعدها بعد تردد وإشفاق»(10)، ثم يذكر السارد المكان الذي رحلت حميدة منه: «وشقا طريقهما متباعدين، وسارا في شارع الأزهر في صمت ثقيل، وقد أدركت أنها أعلنت تسليمها النهائي، وبلغا ميدان الملكة فريدة دون أن يخرجا من صمتهما الثقيل، ولم تعد تدري أين تتجه»(11)، ثم حين سمعت في اللحظة التالية ينادي التاكسي، وجاءت السيارة وصعدت كان هذا المكان هو الفاصل بين حياتين، ففي هذا المكان يحصل التحول في حياة حميدة، وفي هذا المكان ينبني المكان الحلم، واقتحام المجهول الذي حلمت به طموحات حميدة في محاولة للتغلب على سلبية المكان القديم الذي تكرهه، لذا فقد استسلمت للمجهول ورضيت به أتم الرضا «واستسلم جسدها للسيارة المندفعة التي تهرب من الماضي كله، وانتهى التاكسي إلى العمارة التي صارت مأواها، فغادراه، ومضيا مسرعين إلى الشقة»(12)، فالعالم الجديد والمكان الجديد هو مكان الطموحات والحلم المنشود بالنسبة لحميدة. فهي مع رجل غريب، ولكن حلمها وخيالها جعلاها لا ترى إلا ما تحلم به من سعادة ومستقبل نير متوهم... وهذا الحلم هو الذي أوداها المهالك. وبعد أن غرقت وندمت على كل مافعلته، عادت في خيالها إلى مكانها الأول الأصيل الذي خرجت منه: «وانتبهت إلى الطريق فإذا بالعربة تدور في محيط الأوبرا، ولمحت في دورانها عن بعد ميدان الملكة فريدة، فطار الخيال بها إلى الموسكي والسكة الجديدة، والصنادقية والمدق... وأخذت تتسلى في مشاهدة الطريق حتى رجعت العربة إلى شارع شريف واتجهت نحو الحانة التي تقصدها...»(13) فالسارد يشير بكلمة طار الخيال إلى حقيقة مشاعرها تجاه المكان القديم وهذا ما يشير إليه باشلاربقوله: «إذا كنا نحتفظ بعنصر الحلم في ذكرياتنا، وإذا تخطينا مجرد تجمع ذكرياتنا، فإن البيت الذي ضاع في ضباب الزمن سوف ينبثق مرة أخرى من جوف الظل»(14)، وهكذا فإن الأماكن القديمة بالنسبة لحميدة ترجع إلى مخيلتها، هذه الأماكن هي زقاق المدق والموسكي والسكة والصنادقية كلها رجعت إلى الذاكرة بعد سقوط حميدة، وهنا يلمع الزقاق في أفق حميدة بصورة البراءة والطهر والعفة، وهنا تتحول صورة القبح إلى جمال. وهكذا نجد محفوظ يمزج بين الثنائيات الضدية ليجعل من هذا المكان وذات الصورة الثابتة متغيرات تتراوح فيها المتناقضات فهذا المكان الذي كان يؤرق حميدة وتراه سجنا يحمل كل معاني القبح وتتمنى الخروج منه، هو ذاته الذي يتشكل في مخيلتها في آخر الروايةكرمز للجمال. *** 1 - راغب، نبيل، قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 109، 1975. 2 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص210. 3 - انظر: بدر، عبد المحسن نجيب محفوظ. الرؤية والإرادة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1978م: ص414 4 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص5. 5 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص6 6 - المرجع السابق: ص38 7 - انظر:باشلار، غاستون. جماليات المكان، ترجمة غالب هلا المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، بيروت، ط2، 1404ه: ص131. 8 - محفوظ، نجيب.زقاق المدق:ص178 9 - المرجع السابق: ص39. 10 - محفوظ، نجيب. زقاق المدق: ص169. 11 - المرجع السابق: ص 170. 12 - المرجع السابق -ص171. 13 - المرجع السابق: ص218. 14 - باشلار، غاستون. جماليات المكان، ترجمة غالب هلا المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، بيروت، ط2، 1404ه: ص175.