مواقف تسترعي الانتباه والتوقف أمامها من زمن المؤسس، تكشف عنها وثائق الراحل الشيخ حمد بن عبدالمحسن التويجري، رئيس بيت مال المجمعة وعموم سدير والقصيم الأسبق، جمعناها في كتابنا (رجل في موكب المؤسس)، نمتاح من معينها ما نسهم به في إحياء الذكرى العطرة لمؤسس الوطن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. ويبقى الملمح الأبرز من بين عشرات الوثائق التي يحملها الكتاب حرص المؤسس في خضم انشغاله بمعارك التأسيس وتنظيم شئون دولته بتفقد أحوال الناس، ولاسيما المشايخ ورجال القضاء، وإجراء الأعطيات لهم، وتنظيم شئون الزكاة، وغيرها من شئون البلاد التي حرص المؤسس على أن تبقى خاضعة لإشرافه مباشرة، حتى يطمئن إلى أن الأمور تسير وفق ما يريده المؤسس ويطمئن إليه. ففي الوثيقة الرابعة من الكتاب التي نصها: *** بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم حمد بن عبدالمحسن التويجري سلمه الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: الخط المكرم وصل، وما عرفت كان معلوماً، خصوصاً ما أشرت إليه من قبل طلبك، أما الذي علينا فقد أمرنا به لكم، والذي ليس من قبلنا بكيفك أنت والذي هو عنده، هذا ما لزم تعريفه. (شعبان 1350ه، 1931م) وقد علق مؤلف كتاب (لسراة الليل هتف الصباح) الراحل الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، التعليق الآتي: (هذه الرسالة تشير إلى أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لا يسمح لأحد بأن يصدر أوامر على أية جهة من الجهات القائمة على شأن من الشئون المالية إلا بأمر منه، فهو يقول: ما لم نأمر به لا نجيزه هذا شأنك.. ولا شك أن الأمر الذي يرفضه الملك عبدالعزيز كان قد صدر من ابنه سعود ولي العهد آنذاك). فيما جسدت الوثيقة الخامسة من الكتاب اهتمام المؤسس بالأئمة، الذي أشرنا إليه سابقاً. تقول الوثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى المكرم حمد بن عبدالمحسن التويجري -سلمه الله- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعد ذلك من قبل باقي البيوت الذي عرفناكم عليها سابق تشترونها لأئمة المساجد والمؤذنين إن شاء الله تحرصون على شراء الباقي منها وإن ما يسر لها مشتر فأنتم.. تعمرونها لهم إن شاء الله يكون معلوم!!. وتكشف الوثيقة عن الاهتمام بشراء بيوت المؤذنين وأئمة المساجد وثانيتها مسؤولية تامة، على الرغم من أنها مسؤولية بعيدة في تفاصيلها عن اختصاصات بيت المال، لكن المؤسس يحرص دائما كما نرى من خلال هذه الرسالة وغيرها رسائل كثيرة حرص المؤسس على أن تتم أمور كثيرة بمسؤولية مباشرة من الشيخ حمد نفسه، بوصفه أحد أهل ثقته. فيما تكشف الوثيقة الثامنة عن اهتمام المؤسس بتنظيم شئون الزكاة. جاء في نص الوثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم حمد بن عبدالمحسن التويجري سلمه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مع السؤال عن أحوالكم أحوالنا من كرم الله جميلة، الخط المكرم وصل وما عرفت كان معلوماً خصوصاً من قبل الأخبار. أحسنت الإفادة، بارك الله فيك، ومن قبل زكاة العروض فأنت تدري أن هذا شيء لله ولا قصدنا بها إلا أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء، ولا لنا فيها مقصود، نرجو أن الله يحسن النية. ومن قبل رأيكم لابد إن شاء الله ننظر في مسألته. هذا ما لزم تعريفه مع إبلاغ السلام العيال ومن عندنا يسلمون والسلام. (20 رمضان 1352ه، 1933م) وكما نرى من نص الوثيقة فكأن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أراد أن يجيب عن سؤال افتراضي في هذه الوثيقة، عبر حوار افتراضي أيضاً أقامه على الورق مع رجله على بيت مال المجمعة وعموم سدير آنذاك، الشيخ حمد، والإجابة: (فأنت تدري أن هذا شيء لله ولا قصدنا بها إلا أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء ولا لنا فيها مقصود، نرجو الله أن يحسن النية). إنها إفادة للتاريخ وللأجيال القادمة بأسرها، وكأن المؤسس أراد أن يخاطب بهذه العبارة كل من يقرأ تاريخ هذا الوطن، وكأنه أيضاً كان يحث الشيخ التويجري على المزيد من الاجتهاد والجد في طلب هذه الأمور، لأنها حق قرره الله سبحانه وتعالى على القادرين لغير القادرين، والمؤسس بهذا التبرير إنما يضرب مثلاً في مسلكه الديمقراطي المبكر مع رجاله؛ فهو بذلك يفتح آفاق الحوار بينه وبين من يتوسم فيهم الصلاح وسداد الرأي منهم. ولقد كان الشيخ حمد أهلاً لهذا الحوار الذي فتح المؤسس له هذه القناة عبر تلك الرسالة. وهو دليل على حرص المؤسس على اقتناع رجاله بالمهام التي توكل إليهم حتى يضمن أنهم يؤدونها على النحو الذي يرضيه. ونلاحظ على هذه الرسالة أيضاً الأولوية التي كانت تحظى بها آراء الشيخ حمد التويجري ومقترحاته لدى المؤسس في قوله: (ومن قبل رأيكم لابد إن شاء الله ننظر في مسألته)، أيضاً يعكس تلك الحظوة التي كان يتمتع بها الشيخ حمد لدى المؤسس سؤاله (المؤسس) عن أحواله، وإبلاغ السلام لمن في عهدته من الأهل، ليس سلام المؤسس وحسب، بل سلام عياله، ما يعد إشارة واضحة ستتكرر كثيراً في أكثر من وثيقة (رسالة) إلى عمق الروابط بين المؤسس والشيخ حمد ومتانتها. أما الوثيقة الثانية عشرة من كتاب (رجل في موكب المؤسس) فتكشف عن حرص شديد من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- على تفقد أحوال الناس، المهمة التي كان يوصي رجاله المقربين بها، حتى يطمئن إلى صدق ما ينقلونه إليه من أحوال الناس واحتياجاتهم. يقول نص الوثيقة: بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم حمد بن عبدالمحسن التويجري سلمه الله تعالى.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مع السؤال عن أحوالكم أحوالنا من كرم الله جميلة الخط المكرم وصل وما عرفت كان معلوم مخصوص من قبل الأخبار أحسنت الإفادة بارك الله فيك وأنت إن شاء الله تحرص على الأخبار وما يخص جميع أموركم وما عرفناك به سابق تحرص على ذلك، كذلك ياصلكم طيه ورقة على العمال فيها لكم مايتين ريال معاونة، هذا ما لزم تعريفه مع إبلاغ السلام العيال ومن عندنا العيال يسلمون. وقد جاءت هذه الرسالة محملة بامتداح الملك عبدالعزيز الشيخ حمد التويجري لإجادته أداء إحدى مهامه ألا وهي الكتابة للملك عبدالعزيز عن كل ما يخص موقع عمله من تفاصيل، وما يحتاج إليه الناس من خدمات، وكذلك الكتابة عن تفاصيل كثيرة تتعلق بشئون إدارة الموقع وكذلك بشئون الناس، كان المؤسس يحرص على أن تصل إليه أولاً بأول، وكما نرى فقد كانت الكتابة للمؤسس عن هذه التفاصيل مهمة الشيخ حمد، وقد نجح فيها إلى درجة أنه استحق الثناء على أدائه من المؤسس بقوله (أحسنت الإفادة بارك الله فيك). أما ما يتعلق بالإعانة التي كان المؤسس قد أرسلها وقدرها مائتا ريال لموقع العمل الذي يتولى ما فيه الشيخ حمد، فهي إثبات جديد من بين مئات الإثباتات على أن المؤسس ورجاله كانوا يعيشون ظرفاً إنسانياً واقتصادياً قاسياً، حتى إن مبلغاً كهذا كان يمنح إعانة لبلدة بأطرافها، فما أعظم رجال هذا الزمان، وما أروع ما ضربوه من أمثلة في البطولة والصبر والإيثار. أدق التفاصيل كان يهتم بها المؤسس، حتى بناء المقابر المتهدمة، الأمر الذي نطالعه في الوثيقة الخامسة عشرة التي نصها: برقية من الملك عبدالعزيز إلى الشيخ حمد التويجري: ذكر لنا الشيخ محمد بن مقبل ومحمد بن مطلق أن مقبرة المذنب تهدمت جدرانها وحصل عليها أذى، وجماعتهم فقراء، وكذلك المسجد الجامع حصل فيه عيب، فأنتم خير من يعتمد عليه ويوثق به ويكشف ذلك وتفيدونا بالحقيقة إن شاء الله. ولعل الموقف الأبرز من المواقف التي ضمناها كتابنا عن زمن المؤسس، تلك الشفافية والالتحام مع الناس، ففي زمن كانت فيه الإمكانات المادية للمملكة متواضعة، كان المؤسس يعتمد على المقربين من رجاله أمثال الشيخ حمد التويحري في الاستدانة للدولة من الموسرين من المواطنين لتجهيز الجيوش، ثم رد مديونية الدولة لهم، ما يجسد حرص الناس على إسناد جهود المؤسس، وإدارة المؤسس شئون بلاده بروح الأسرة الواحدة، بفعل روح الانتماء التي غرسها في نفوس الجميع.