استغربت وأنا أقرأ مقالاً للكاتب د. حمزة محمد السالم المؤطر بعنوان (المسكوت عنه) في إغلاق المحال للصلاة (أفتان أنت يا معاذ)، الذي نُشر بجريدة الجزيرة العريقة، التي تحرص دوماً على انتقاء مقالاتها من خلال استقطاب بعض الكتّاب كسعادة الكاتب، خاصة أنه يحمل مؤهلاً علمياً يخوله للرؤية والاستنباط وإن قصر عن الفتيا والتشريع. مثار استغرابي وذهولي ليس في جرأة الكاتب على لوحة في التشريع الإسلامي، المتمثل في فرضية صلاة الجماعة المتواتر عن المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة الشرعيين في وجوب إقامتها؛ فالأمر مدرَك لدى جميع القراء الغيورين على دينهم، وذلك سيكون له نصيب من مقالي، وإن كان ليس بالمستغرب طرح مثل هذا الأمر في زمن نرصد فيه بين فنية وأخرى حجراً يلقى في محيط التشريع السماوي. إنما موطن الإثارة والاستغراب يكمن في الصيغة والأسلوب الذي عالج به الكاتب الفكرة، ولاسيما أنه أكاديمي التأهيل. لن نخرج في نقاشنا للموضوع والرد عليه عما طرحه الكاتب، ولاسيما ما افتتح به مقاله، فليقرأ معي الجميع مدخل المقال الذي بدأ بعبارة «إغلاق المحلات التجارية وتوقف العامل عن عمله لأداء الصلاة فيه صورة روحانية من روائع صور إظهار شعائر الله في بلاد الإسلام. وهذا كلام عاطفي لا تقوم به حجة ما لم يستند إلى الدليل الشرعي. والدليل الشرعي موجود بعموم أدلة صلاة الجماعة، والحرص على إظهار شعائر الله، ولكن طريقة إغلاق المحلات لتحقيق مراد الله من إقامة صلاة الجماعة وإظهار شعائر الله هي اليوم بعيدة عن هدي السلف الصالح، بما قد لا يحقق عموم المراد من عموم الأدلة العامة في ذلك. كما أن فيها تشدداً يخلق فتنة تنفر الناس عن دينهم، كما أن فيها أضراراً اجتماعية واقتصادية»!!! عبارات مسترسلة؛ تحتاج لترجمة الرؤية وفك رموزها. ثم أي فتنة أعظم من صرف الناس عن صلاة الجماعة؟ للجريدة ولجمهور القراء الحكم والتقرير في مستوى الطرح وتداخلاته وتجاوزاته وجرأته. ولنعد لمناقشة موضوع المقال. أخي الكاتب، ألم يعاتب الله تعالى من علياء سمائه صحابة رسول الله في عهد المشرع عليه الصلاة والسلام عندما خرجوا من المسجد لتلقي بضاعة قدمت المدينة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب، ولم يكن قد بدأ في الصلاة، والفرصة قليلة التكرار في توافرها، والمنافسة ستكون حادة بين الحضور، فكان التوجيه من المولى تعالى في علياء سمائه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (9-10) سورة الجمعة. فكيف لو أنهم كانوا في متاجرهم، فهل لديك فتيا وتبرير يُلغَى بها هذا التوجيه الرباني بأن ذلك خاص بزمن الصحابة أو أنه خاص بالجمعة، وذلك له الرد والجواب لدينا. أخي، تتجاذبني الأفكار وأنا أقف عند كل سطر من مقالك بين الجهل بالأحكام الشرعية والجرأة على الدين الذي عموده ورأسه الصلاة. فالصلاة لها أوقاتها {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا}، وإذا كنت تهدف إلى قضاء الصلاة منفرداً أو ترك الخيار للمصلي بين هذا وذاك، فالأمر يمثل في التشريع خطاً أحمر، تتوقف عنده كل المصالح أو ما نتوهم أنه مصلحة حتى تقضى الصلاة جماعة. ولا يخفى على الجميع العقاب الذي يتوعد به المخالف لهذا. إنه وفي أشد الحالات التي تمر بالأمة - وهي حالة المواجهة مع الأعداء - لم يؤمروا بترك الجماعة، يقول أحد الكتاب «لقد أكد الشارع أمر صلاة الجماعة، ولم يرخص في تركها في أشد الحالات والظروف (حالة الخوف، والحرب) فقال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (102) سورة النساء». أخي، لقد غرقت في بحر التشريع، وحشرت نفسك في قضايا لا تدرك الحكمة فيها ولا مقتضى الأوامر التي يرسمها الشارع لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. تقول في ثنايا مقالك مبرراً فتح المحال أثناء إقامة أو انتظار الصلاة «وفي الإقفال لنصف ساعة شللٌ للسوق من قبل صلاة المغرب بساعة (عجباً، هل تدخل العصر بالمغرب؟!!) إلى بعد صلاة العشاء، فالناس تتفادى الخروج لقضاء حوائجها إلا بعد العشاء تجنباً للإقفال المتكرر وترك عوائلها وأطفالها في الممرات والطرقات، في صورة لا ترضاها الشريعة، وهذا النمط التسوقي قد أثر كثيراً في النظام الاجتماعي السلوكي للمجتمع السعودي، وأطال من ساعات إضافة وقته وميله للسهر. وحتى حمائم المسجد يكرهون التواجد في الأسواق عند الصلوات، فالصلاة في الأسواق نوع من الجهاد». أخي، يذكرني هذا القول بحجة المنافقين - نزهت عن ذلك - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين برروا عدم الخروج للجهاد، وكيف نزل الرد على حجتهم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} وقوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ. وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. ثم تقول جازماً ومقرراً «فأما هدي السلف الصالح فإنه وإن لم يذكر في الآثار - على حد علمي - إجبار الناس على إغلاق محالهم وتجاراتهم وترك أعمالهم للصلاة في المسجد العام، إنما هو التذكير بها والحث عليها. ولكن، وإن كانت هذه الحالة آنذاك، إلا أنه لا يتخيل». عجباً من هذه الجرأة في الفتيا!!! وهل أغفلت مهمة الأذان والإقامة في التنبيه والتذكير بوجوب الحضور للمسجد أم أن هذا سيسقط أيضاً؟!! ثم تقول: «كما أنه يوجد آثار منقولة أن الناس كانوا يتركون الصلاة ويجلسون في تجاراتهم إلا أهل الذمة والصبيان والمماليك فقد كانوا يمارسون البيع والشراء» !!! أي مصدر اهتديت واعتمدت في فتواك هذه {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة. وتقول: «والحال قد تغير في جوانب كثيرة من العصور القديمة، وشابهه في أمور أخرى، فليس الإيمان هو الإيمان، وليست المسافات هي المسافات، وليست بركة الأوقات هي نفسها، ولكن الصبية والنساء وغير المسلمين تتشابه فيهم الأحوال رغم بعد الزمان، فإخراج هؤلاء من المحلات ليس من هدي السلف الصالح بل هو تشدد لا يخفى على منصف». هل كل مكونات المجتمع وعلمائه الشرعيين ممن خفي عليهم نظرتك من الصبية والنساء؟ لا تعليق!!! أخيراً، تقول «وهذه الفئة الأخيرة، خاصة ممن لا يصلون، تشكل صورة قبيحة تفسد الصورة الروحانية لإظهار شعائر الله». صدقت في ذلك. كما أن «إيقاف العمل والبيع والشراء وقت صلاة الجماعة من مظاهر شعائر الله التي نحرص على إظهارها في بلادنا ونريد استمرارها» نشاطرك الرأي. ولكن كيف العلاج؟ تقول: «لن يتحقق بهذا الوضع المتشدد القائم اليوم، فلِمَ تقفل أسواق النساء المعزولة ومصالحهن كالبنوك وغيرها؟ ولِمَ تقفل المحلات مع الأذان أو قبله غالباً لإخراج الناس، فجميع الموظفين في كل العالم يذهبون لقضاء الحاجة ونحوها أثناء ساعات العمل دون أن يتوقف العمل». وهل تفتي بأن ترك العمل جائز في النظام أو الشرع أم أنه من الفساد الإداري الذي ترفضه وتهاجمه الجهات الرقابية والإدارية في الغرب وفي الشرق وفي كل بقاع الأرض؟ وهل يحتج بباطل لتبرير باطل آخر؟! ما لكم كيف تحكمون؟! ثم تقول: «لِم لا يعاد النظر في مسألة الإغلاق فتقتصر على منع البيع والشراء دون الإلزام بإخراج الناس وإغلاق الأبواب.. الجواب يتلخص في حب التسلط باسم الدين ولو فيه إساءة للدين، وبعدم الاكتراث بالتبعيات الاجتماعية والاقتصادية بحجة الدين». أخشي أن نقع في مقترحك أمام تهديد ووعيد الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. أخي، مقالك ينتهي برؤيتك أن «الحال قد تغير في جوانب كثيرة من العصور القديمة، وشابهه في أمور أخرى، فليس الإيمان هو الإيمان، وليست المسافات هي المسافات، وليست بركة الأوقات هي نفسها، ولكن الصبية والنساء وغير المسلمين تتشابه فيهم الأحوال رغم بُعد الزمان، فإخراج هؤلاء من المحلات ليس من هدي السلف الصالح بل هو تشدد لا يخفى على منصف». وهي تحمل تجاوزات كبيرة؛ فالإيمان هو الإيمان منذ أبينا إبراهيم حتى يومنا هذا، وبركة الأوقات يمنحها الله لمن صدق مع ربه. وفق الله الجميع لما فيه خدمة ديننا ومجتمعنا وأمتنا. عبدالرحمن بن صالح المشيقح - مستشار تربوي وتعليمي