بدا رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر وكأنه الوحيد الذي يغرد خارج السرب باعتبار أنه «مرتاح لتطور المواقف بين الفرقاء السياسيين بإزالة الخطوط الحمراء من هذا الطرف أو ذاك،» وقال في بيان له في انتظار الكلمة التي سيتوجه بها الليلة تلفزيا إلى الشعب التونسي، بأن المحافظة على المجلس التأسيسي وقبول مبدأ استقالة الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة كلها مؤشرات تدل على قرب انفراج الأزمة. وبخصوص قراره تعليق أعمال المجلس يوم 6 أغسطس الماضي،لا حظ بن جعفر أنه كان قرارا في محله بالنظر إلى تخفيفه حدة الاحتقان في الشارع التونسي اثر اندلاع الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد منذ أكثر من 35 يوما مضيفا أن لقاءات الأسبوع الجاري ستكون مفصلية لأنها ستمكن الفرقاء السياسيين من وضع أرضية لمواصلة الحوار من اجل التوصل إلى حل توافقي. ونوه بموقف اتحاد الشغل والمنظمات الراعية للحوار الوطني إلى جانبه، مبرزا الدور التاريخي الذي تضطلع به المركزية النقابية في حلحلة الوضع السياسي المتأزم. ويرجح المراقبون أن هذا البيان بما تضمنه، يعتبر تمهيدا من بن جعفر للإعلان عن قرار مهم جدا قد يتعلق إما باستقالته أمام انسداد الأفق أمامه وعدم نجاحه في مسعاه، وإما بعودة أعمال المجلس التأسيسي بعد تعليقها منذ حوالي شهر. وفي حالة إعلانه استئناف أعمال المجلس، يكون رئيسه، قد رمى المنديل وضاعف من جراح حزبه، التكتل من أجل العمل والحريات، الذي يشكو الوهن منذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 وفوزه بالمنصب الرابع بعد حركة النهضة الحاكمة والعريضة الشعبية وحزب المؤتمر. وهو فوز ضعيف جدا، إلا أن الحسابات التكتيكية لحركة النهضة مالت في اتجاه التحالف مع التكتل والمؤتمر على حساب عريضة الهاشمي الحامدي وقتها. والواضح أن الكفة ترجح عودة المجلس التأسيسي، أعلى سلطة شرعية بالبلاد، إلى الانعقاد خاصة على ضوء تحركات نواب كتلة حركة النهضة الذين ما فتئوا يمارسون بمعية حلفائهم نواب التكتل والمؤتمر، ضغوطات واضحة على بن جعفر للإعلان عن استئناف نشاط المجلس بالرغم من تمسك عدد كبير من نواب المعارضة بقرارهم الانسحاب من المجلس والالتحاق باعتصام الرحيل، الذي فقد جدواه بعد فشله في إسقاط الحكومة طيلة شهر كامل من الاحتجاجات. أما إذا اختار مصطفى بن جعفر قرار الاستقالة، فسيكون قد أعطى دفعا سياسيا كبيرا لحزبه المتآكل أصلا وجعله يتبوأ مكانة هامة في الخارطة السياسية الجديدة بحيث يقرؤ له ألف حساب ويرجع إليه الفرقاء عند اتخاذ القرارات المصيرية. ويستند المحللون السياسيون في ذلك على مباركة قوى اليسار والمعارضة وجبهة الإنقاذ لقرار بن جعفر تعليق نشاط المجلس عند اندلاع الأزمة وهو قرار رأت فيه الأحزاب خارج السلطة دعما هاما لمطالبها ومساندة لتوجهها الرامي إلى إسقاط الحكومة، مما ضاعف أسهم الرجل وجعله يحتل مكانة بارزة في الساحة السياسية في هذا الظرف الصعب. وفي سياق متصل، تفيد بعض التسريبات بأنه يقع الإعداد لسيناريو يتم طبخه على نار هادئة بتوافق كل الفرقاء السياسيين يقضي بإعلان حكومة علي العريض استقالتها خلال الأسبوع الجاري، على أن تتولى مواصلة تسيير الأعمال إلى حدود 23 أكتوبر المقبل، بالتوازي مع استئناف المجلس التأسيسي لأعماله. وستنحصر مهام المجلس وقتئذ في الانتهاء من صياغة الدستور الجديد وإقرار القانون الانتخابي وتشكيل الهيئة العليا للانتخابات. على أن يعلن المجلس التأسيسي عن حل نفسه بنفسه ومنح صلاحياته إلى حكومة الكفاءات المستقلة التي سيتم تشكيلها لتنطلق في العمل يوم 24 أكتوبر المقبل. ويظل هذا السيناريو الأقرب إلى التوافق خاصة وأنه يستجيب إلى مطالب طرفي النزاع دون محاباة لأحدهما على الأخر، إلا أن قوى المعارضة تشعر اليوم بالأسى بعد تيقنها من أن حركة النهضة نجحت في مسعاها لربح الوقت وأنها صارت تخوض المفاوضات بأريحية كبيرة بل إنها أضحت أكثر تمسكا بحكومة علي العريض من ذي قبل. ويرى المتتبعون للشأن المحلي أن المتغيرات السياسية والميدانية خدمت النهضة ومن وراءها الترويكا الحاكمة التي لم تفض الأزمة الحالية إلى تصدعها كما كان يروم معارضوها، حتى أن الانشقاقات الداخلية في الحزب الحاكم التي راهنت عليها المعارضة للقضاء على النهضة، تمت لملمتها بما يوحي أن حزب راشد الغنوشي قادر اليوم على قلب المعادلة لمصلحته دون تقديم «التنازلات المؤلمة» التي تحدث عنها الأمين العام لإتحاد الشغل.