- الحمد لله الذي أمر بالحق، وقضى بالعدل، وجمع القلوب، والصلاة والسلام على من جمع الله به بعد فرقة، وألّف بعد اختلاف، ووحّد بعد شتات، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وبعد: فإن المتابع للأحداث والتطورات التي مرت وتمر بالمنطقة العربية خصوصًا، والتحولات والمتغيرات وما قضى الله أن يحصل يجد أنها أمور أرادها الله، ولا راد لقضائه، ولا مبدل لكلماته، وله فيها الحكمة البالغة، والحكم التام، لا معقب لحكمه، ولا مانع لما أراده، ونظرنا كمسلمين إلى مثل هذه الحوادث والفتن يتم من خلال القدر والشرع، فنسلم لما قضاه الله وقدره، ونؤمن بأن ذلك واقع بمشيئته وقدره، ونتصرف في هذه الظروف وفق شرع الله الذي بين لنا ما يجب علينا في كل الأحوال، وأوضح لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم المحجة، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومع ألمنا لما حلّ ويحل بإخواننا في الشام ومصر إلا أننا ندرك أننا محكومون في تصرفاتنا وأقوالنا وأفعالنا وعواطفنا بما جعله الله مخرجًا لنا من الفتن، ونجاة لنا من السقوط فيها، وعاصمًا لنا من الزلل، ومحققًا لمقاصد الشرع في الجماعة والإمامة التي هي الهوية المميزة لأي أمة ووطن، نجتمع عليها، ونعتقد ما يجب علينا من حقوق فيها، وما تقتضيه صورتها المتمثلة في بيعة الرعية لإمامهم وولي أمرهم من حقوق وواجبات، وهذا المبدأ الرئيس والعقيدة الراسخة التي سار عليها سلف هذه الأمة، وحققوها في عصورهم، فكتب الله لهم النجاة والاجتماع والسلامة من كل ما حلّ بهم من فتن، هي حبل النجاة لنا في مثل هذه الظروف، كيف لا وهي وصية أنصح الخلق وأفصحهم وأشدهم رحمة وشفقة على أمته، حينما ذكر الفتن والتغيرات والاختلاف بيّن ما الذي يعصم منه، فقال في وصيته وصية المودع: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد»، وقال في حديث الفتن: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، ومن هنا فنحن مأمورون بالتمسك بهذا الأصل والتكاتف عليه، والتوحد خلف من ولاهم الله أمرنا، لاسيما عند ظهور هذه الأزمات والمحن، سواء في الشأن الداخلي، أو الشأن الدولي، أخذًا بالتوجيه القرآني: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، ووالله لن تسلم الأمة ويسلم لها دينها إلا إذا أخذت بهذا الحبل المتين، والنهج القويم، وما زل من زل إلا بالخروج على هذا الصراط السوي، يقال ذلك في ظل ما أشرنا إليه من ظروف مرت ببلاد مجاورة، وحاول من خرج عن منهج الله أن يجر هذه البلاد إلى المشاركة فيها بالعواف، بل ويسعى جاهدًا لإدخال هذه البلاد المباركة -حماها الله- في أتون هذه الفتن، ويؤثر على الشباب بالعواطف والغير الفائرة، والحماسات المفرطة، والتأثير بالوسائل التي أصبحت بسبب استخدامها في جانبها السلبي مفاتيح للفتن، من شبكات ووسائط وغيرها، ولا أعلم كيف يتجاسرون على مثل هذه الأصول، وبماذا يجيبون أمام الله، وتأتي قمة الانحراف، وأسّ الفتن، حينما لم يسلم من تأثيرهم أحد، حتى تطاولوا على ولاة الأمر، وصوروا الواقع بشكل لا يمت للحقيقة بصلة في أساليب ماكرة، وطرق ملتوية، بل وقلب للحقائق، زاعمين أن مواقف المملكة العربية السعودية ممثلة بقيادتها تدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول أو تخاذل أو صمت أمام ما يحصل، ولعمر الله أن هذا هو الافتراء والسقوط في الفتنة، وفي مثل هذه التخبطات المظلمة سيما من أصحاب الأهواء والتوجهات الحزبية تأتي المواقف المشهودة، والنخوة العربية المعهودة، من مليك الحكمة والإنسانية، رجل المواقف الاستثنائية، وفي كل القضايا التي مرّت، لتبقى شاهد حق، ودليل صدق، على أن هذه البلاد محفوظة بحفظ الله، وأن الله هيّأ لها قيادة راشدة، لا تخرج في تصرفاتها ومواقفها وأحوالها وتحولاتها عمّا جاء في الكتاب والسنة على نهج سلف الأمة برؤية وسطية، وبفهم شمولي، ينتظم مقاصد الشريعة وقواعدها، يؤسس لعلاقات مثالية، تقوم على رؤية واضحة، واستشراف لمستقبل واعد، وأمل مشرق، وسياسة لا تتحول، تتماشى مع الرؤية الدولية وتحترم القوانين، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، ولكنها في ذات الوقت تخدم استقراره وأمنه ووحدته بما حباها الله من مكانة وقوة دولية وإقليمية، وهذا ما حصل في السابق، سيما القضية السورية، ليأتي آخرها -وليس لها آخر- وواسطة عقدها الموقف الذي سيخلده التأريخ تجاه قضية مصر في خضم الفتن والانقسامات، وفورة الأحداث وتسلط الأحزاب المنحرفة، وعلى رأسها جماعة متطرفة لم يمر على تأريخ الجماعات جماعة أضرّ على الإسلام منهم، في التأليب والإثارة، وتوظيف الغير فيما يحقق أهدافهم ولو بالتحالف مع أعداء الإسلام. هذا الموقف الذي كان منذ بداية الأحداث التي مرّت هناك، ولكنه جاء متفردًا متميزًا في كلمة تأريخية مشهودة قالها إمامنا ومليكنا في هذه الأحداث، لتقطع الطريق على المزايدين والمشككين، وتظهر قوة المواقف وأثرها من بلاد الحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية -حرسها الله-، كيف لا وهي البلسم الشافي، والدواء الناجع، موافقة للنصوص الشرعية، والمقاصد المرعية، متضمنة لوقفة واضحة صريحة في وجوه دعاة الفتنة والشر، وخصوصًا الحزبيين الذين كشروا عن نابهم، وأظهروا إفلاسهم. نعم، لقد جاءت هذه الكلمة لتضع النقاط على الحروف، وتنظر إلى واقع الأحداث في مصر الشقيقة، مصر الحضارة والتأريخ، مصر الرجال والمواقف نظرة شمولية، ولأهمية هذا الموقف التأريخي ولما له من دلالات مهمة، تعد خارطة طريق للخروج من الأزمة، ومعالم رئيسة لسياسة هذه البلاد المباركة، تظهر دعم المملكة بل وإسهامها النوعي تجاه دول المنطقة وما تمر به، بما لا يشكل تدخلاً في الشؤون الداخلية، وتكشف أوراق المزايدين والمتاجرين بالمواقف، لتتوارد الصحف المحلية والعربية والعالمية على الإشادة بالمضامين السامية، وتشهد بما حملته من قوة في الحق، وتوضيح للملتبس، وتأكيد على الثوابت، وتأييد للحكومة والشعب المصري الشقيق ليتجاوز هذه الأزمة إلى بر الأمان، إنه موقف عظيم يصدر من أكبر وأهم دولة عربية وإسلامية، ومن رجل الحنكة والمواقف الصعبة، خادم الحرمين الشريفين، فلا غرو أن يشكل أبلغ رد على كل مريد للفتنة، ومشارك فيها، أكدت هذه الكلمة الضافية موقف المملكة العربية السعودية الثابت الراسخ مما يحل بمصر وشعبها من فرقة وانقسام، سببه إرهاب داخلي، متمثل في مبادئ وأفكار تلكم الجماعة الحزبية ، الذين لا يهمهم من يكون الضحية، في سبيل وصولهم إلى مآربهم، ويتهمون غيرهم بالعمالة وهم أول العملاء، وأكبر المتحالفين مع قوى الشر، لأن مبدأهم أن الغاية تبرر الوسيلة، فإن كل ما يكون من صور الإرهاب يمكن أن تبرر في فكرهم، ومن هنا جاءت كلمة العلماء محذرة من هذه التحزبات التي توظف الدين لخدمة الأهداف السياسية، ويكفينا في بيان خطر هذه التنظيمات وتفعيلها للفتن وما يشق صف المسلمين ما قاله وقرره كبار العلماء المحققين الموثوقين ومنهم العلامة أحمد شاكر والشيخ محمد الألباني وسماحة الشيخ ابن باز وابن عثيمين ومعالي الشيخ صالح اللحيدان والشيخ صالح الفوزان وغيرهم حفظهم الله. وعودة إلى الكلمة الملكية فإن من مضامينها المهمة توحد الكلمة ضد الخطر المحدق الذي أهلك الحرث والنسل، وأوسع الفتنة، إنه الإرهاب الذي تتفق أمم الأرض على محاربته، ولا يبرره أو يمرر أفكاره إلا من فسدت عقيدته، وقسا قلبه وتحجر، وأراد بالأمة سوءًا، ولهذا يقول خادم الحرمين الشريفين -سدد الله قوله-: « المملكة العربية السعودية شعبًا وحكومة وقفت وتقف اليوم مع أشقائها في مصر ضد الإرهاب والضلال والفتنة، وتجاه كل من يحاول المساس بشؤون مصر الداخلية، في عزمها وقوتها -إن شاء الله- وحقها الشرعي لردع كل عابث أو مضلل للبسطاء الناس من أشقائنا في مصر، وليعلم كل من تدخل في شؤونها الداخلية بأنهم بذلك يوقدون نار الفتنة، ويؤيدون الإرهاب الذي يدعون محاربته». نعم، إنه وبكل أسف وبسبب التكالب الذي يتفق عليه أصحاب التوجهات الحزبية يزينون للناس الفتنة، ويستغلون عواطف الدهماء والعامة برفع رايات الإسلام، وهم أول من يخذلها، وهذا درس تثمره لنا أحداث مصر بأن نستبين الحقائق، ونعرض واقع القوم، وأنهم الخطر والإرهاب بثوبه الجديد الذي يتشكل مع البيئات، والشبهات الجديدة لهذا الإرهاب، ولذا فإن من الواجب على العامة والخاصة توضيح خطر هذه الدعوات الحزبية، والتحذير من دعاة الفتنة، ورؤوس هذه الجماعات، وهم من يتخذون من هذه الظروف بيئات لتمرير أفكارهم، وينصبون أنفسهم للحديث عن الأمة وكأنهم نوابها، ويؤججون العواطف ويستغلون البسطاء وهم من عناهم خادم الحرمين الشريفين حينما ذكر من يتدخلون في الشأن المصري الداخلي، وصدق -أيده الله-، وتكثيف الجهود للدعوة إلى نهج الحق نهج سلف الأمة الذي أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله حبل النجاة: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». مضامين واسعة، وموقف تأريخي ينبع من الدين الإسلامي والسمات العربية الأصيلة، ومواقف النخوة والشجاعة، ولذا يشعر كل مسلم وكل مواطن بالفخار وهو يستمع لهذه الكلمات النابعة من القلب، والتي لها دلالاتها الأكيدة على الشعور بشعور الجسد الواحد، والسعي للهدف الأسمى، والتوحد ضد المخاطر التي تهدد جسم الأمة العربية الإسلامية، والحرص على مصر العروبة والإسلام لتعود قوية مشاركة في وحدة الصف العربي، ومسؤوليتنا تجاه هذا الموقف القوي الصارم الشجاع الصادع بالحق، الذي نرى قوته فيما تضمنه من حكم وأحكام موافقة لهذا الشرع، ويمكن تأصيل فقراته بما لا يسع المجال لتفصيله هنا مما يعلمه أهل العلم، وإذا كان بهذه المثابة فإننا مسؤولون أمام الله أن نقرأ ما فيه من معانٍ ودلائل؛ لأنها مما جاء به الدين، وصادرة من ولي أمرنا الذي أمرنا بالاجتماع إليه، والسمع والطاعة له، والتعبد لله بذلك، وأن نتوحد خلفه فيما يتخذه من مواقف تأكيدًا لهذه الأصول التي ذكرناها في صدر هذا المقال، وأن يكون قدوتنا في هذا علماؤنا ودعاتنا ونخب مجتمعنا من مسؤولين، فإن المسؤولية لا تنحصر في الفتيا والبيان، وتحقيق هدف الدولة في المؤسسة المعينة، وإنما كل أولئك نخب المجتمع وقدواته، وقد ائتمنهم الله على مصالح في الدولة، والمصالح الكبرى التي تخدم وحدة هذا الوطن في مقدمة هذه المسؤوليات، ولذا يجب عليهم من البيان والتوضيح وربط المجتمع بولاة أمرهم ووطنهم ما لا يجب على غيرهم، وذلك بصورة واضحة، وبشفافية عالية، وطرق وأساليب حكيمة مقنعة تعزز مقاصد الشرع في التوحد والاجتماع والألفة، كما أن المنابر الشرعية وقنوات التوعية والإرشاد، ومؤسسات التربية والتنشئة عليها من المسؤولية ما لا يخفى، كيف لا وفئات المجتمع تتلقى الخطاب الشرعي من خلالها، فالمنابر تأثيرها لا يخفى، وقوة الخطاب فيها إلزام الشرع بالإنصات إليها، لاسيما منبر الحرمين الشريفين الذي ينتظره المسلمون في العالم، ومسؤوليتها في أوقات الفتن والأزمات أعظم من غيرها، ومؤسسات التربية تصنع عقول الشباب، وتوجههم لما ينفع في الدين والدنيا، ومن أعظم ما يضرهم أفكار الجماعات والتأثير عليهم بالعواطف، وتشويه صورة وطنهم وتجرئتهم على نقد ولاة أمرهم وعلمائهم، واتخاذ مواقف بناء على ذلك، فالمسؤولية تجاه هؤلاء النشء من خلال مؤسسات التعليم والتعليم العالي كبيرة، وتفعيل مضامين الخطاب الملكي الشرعية مسؤولية في مثل هذالوقت، أما مؤسسات الإعلام فهي القوة الناعمة ، والمحرك الفاعل، والمؤثر القوي على العقول، ولذا فالمسؤولية عليها عظيمة، وتجسيد هذه المسؤولية يجب أن يشمل كافة قنوات التأثير المرئية والمسموعة والمقروءة،وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها، وعندي أن هذه الوسائل إذا استقطبت العلماء المؤثرين، والمسؤولين في قطاعات الدولة، والدعاة الناصحين، وتوالت مشاركاتهم في إطار مضمون الخطاب الملكي مع ما يصاحب ذلك من ديانة ونصح فإننا سوف نجني من ذلك خيراً عظيماً، وسيجد المجتمع بفئاته أنهم أمام أصول شرعية يتلقونها بكافة وسائل وأساليب التأثير، وهذا سيقطع الطريق على المزايدين والمشككين وغيرهم ممن يرون مصلحتهم في استهداف وحدة هذا الوطن الغالي وأمنه. وأخيرًا: ما سطرته هنا جزء من هذا الواجب، والمسؤولية عظيمة، والخطاب تأريخي استثنائي نحتاج مضامينه لمواجهة منظري الفكر المنحرف ودعاة الفتنة في الداخل،ونحن نقول لمليكنا المفدى وإمامنا الموفق، نصحت فأسمعت، وقلت فوفقت وسدت، وقولك النابع من قلبك الكبير لامس شغاف قلوب الملايين، فسر ونحن معك وأرواحنا فداء لديننا ووطننا وستهزم قوى الظلام والشر وتدمر في وطننا العزيز، وفي مصر الشقيقة وفي كل بلد. وأسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وأمننا، وأن يرد عنا كيد الكائدين، وإرهاب المعتدين، وضلال الحزبيين، وأن يحفظ لنا مليكنا وقائدنا، ويديم عليه نعمه، ويسبغ عليه فضله، ويلبسه لباس الصحة والعافية، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية