عرفت سعدية مفرح من مقال. لا لا، عرفتها من كتاب قرأته لها قبل المقال بسنوات، في المقال كان الكاتبُ يقول: إن سعدية، شاعرة كويتية ممنوعة من السفر، أو لا يمكنها أن تسافر. لم أعد أذكر الأسباب بوضوح كما ساقها الكاتب، الذي كان آتياً من الكويت، لكن المقال عرفني بها وبدأت بمتابعتها منذ ذلك اليوم. لم أفهم السبب الذي يجعل أشهر شاعرة كويتية غير قادرة على السفر. تدعى سعدية على الأرجح لمهرجانات كثيرة عربية ودولية. لكنها كملكة متوجة يأتي العالم إليها وهي لا تذهب لأحد. لم يحصل لشاعرة في التاريخ ما حصل مع هذه الشاعرة، على الأقل بحدود علمي. مع ذلك، ثمة ما هو إيجابي في هذا الجانب، جعلها طوال سنوات وسنوات تعكف على الإنتاج، دون أن تغرق في لجة المهرجانات وإغراءات السفر غير أن سعدية سافرت كثيراً. سافرت كما لم يسافر أي كويتي آخر، كل كلمة كتبتها عبرت حدود الكويت بعد أن عبرت حدود غرفتها أو مكتبها أو أمكنتها المفضلة للكتابة. هي نفسها تقول في واحد من أجمل دواوينها «تواضعت أحلامي كثيراً» 2006. صغيرٌ أنت أيها العالم في طرفك البعيد جدا تنمو حشاشةُ روحي بين ثلوج وغياهب الغموض في أزقةٍ لم أرها أبداً. صغيرٌ أنت صغيرٌ جداً. حين قرأت هذا الكتاب غداة صدوره في بيروت لم أفهم كيف يمكن لأحد ألا يكون قد رأى الثلج، توقفت عند قراءة هذه الجملة عشرات المرات، في كل مرةٍ من المرات كنت أرسم علامات الاندهاش نفسها التي ارتسمت عند القراءة الأولى، لكن، كنت أعللُ هذه الجملة أن هناك أيضاً من يولدون ويعيشون حياتهم ولا يختبرون سخونة رمال الصحراء. مع ذلك، تمكنت سعدية من إيصالي إلى الدهشة كما أوصلت كثر إلى الدهشة نفسها، يسجل لهذه الشاعرة، أنها نقلت عوالم ومناخات شديدة الغرابة والحميمية نقلاً عن المرأة التي هي هيَ في المكان الذي تقيم فيه، حيث هيَ في ذلك المكان تقيم وتأكل وتشرب وتمارس حياتها الطبيعية كأي امرأة تواضعت أحلامها كثيراً. غير أني رأيت سعدية حين وصلت إلى مطار دبي العام الماضي، كنت أقف في الجهة التي يفترض بالأجانب أن يقفوا فيها، آتياً من باريس إلى دبي للمشاركة في منتدى الإعلام العربي، لم أكن أتخيل رؤية هذه الشاعرة. شاعرة لم تذهب إلى أي مكان، كيف تأتي إلى هنا. برز في ذهني المقال الذي ذكرته، لا يمكن لا يمكن، قلتُ. لكني لمحت دلع المفتي. أعرف دلع منذ سنوات طويلة، لم ألتق بها لكننا كنا معاً زملاء في أحد المنتديات الثقافية على الإنترنت. أعرف صورتها وأتابعها في ( القبس )كلما نشرت مقالاً. كان يمكن ألا أعرفها لكن تسريحة شعرها مميزة والحدة التي تظهر على وجهها رغم الأمتار الفاصلة في هذا المطار تكشف أنها هي. ستكون هناك، سأسألها عن سعدية غير أني عثرت على سعدية نفسها. سعدية المتواضعة التي تمشي كخيمة بدوية في بهو الفندق. (2) كانت وصيتي لفهد الربيعة صديقي الكويتي الذي أورثني صداقته صديق سعودي في قارة أستراليا كان وصيتي له أن يذهب إلى معرض الكتاب في الكويت ويشتري لي كتب سعدية ويرسلها إلى فرنسا، حين تركتُ بيروت بعد الحرب لم أحضر مكتبتي، وضعتها في كراتين بنية سميكة وأودعتها في بيت أمي. لمّح لي فهد أن بريد الكويت لا يقدم خدمات ممتازة، وأنه بريد كسول. لم أنتبه. قال لي أيضاً أنه قرأ منذ أكثر من عام كيف أنهم وجدوا أكواماً من الرسائل والطرود البريدية مرمية في مكان بعيد من العاصمة الكويت. لأن عامل البريد الكسول لا يريد تجشم عناء إيصالها لأصحابها، فقرر أن يرميها. ولهذا أبلغني أن الكتب سترسل من القاعدة الأمريكية التي لديه صديق فيها، وكذلك كما لم أفهم وأستغرب كيف يمكن لأحد ألا يكون قد رأى الثلج. لا زلت مستغرباً كيف يمكن لمواطن ألا يثق ببريد بلاده. خدمة البريد، في أي بلد، من الخدمات الضرورية جداً للحياة العامة وليس فقط للأفراد والعشاق وهواة المراسلة. لا أدري إن كانت هذه الواقعة حدثت فعلا، قال فهد: إنه قرأ تحقيقاً منشوراً في صحيفة محلية. قال أيضاً إنه لم يفاجأ إذ مثل هكذا أحداث تحصل ولا يسأل أحد. لكن ما لم يقله أن بريد الكويت هو أقدم بريد عربي إذ تأسس في العام 1775 ميلادية حين كان الشيخ صباح بن جابر أمير الكويت وبعد عام توفي. كيف كان يصل البريد في ذلك الوقت؟ هل كانوا يستعملون الجمال؟ أم السفن؟ أما ماذا؟ كانت الكويت في ذلك الزمن صحراء كما هي اليوم، لكن صحراء قاحلة بلا حدود يسكنها بدوٌ يتبعون مصادر العشب والماء. كيف كان البريد يصلهم؟ كيف يمكن لساعي بريد أن يلحق ببدويٍ في تنقلاته لإيصال رسالة. لا أتحدث عن قصر الأمير والكويت المدينة التي كانت طينية بلون الرمال. في مقال لكاتب كويتي متخصص بالتنمية، يعلل أسباب رداءة البريد بمنافسة البريد الالكتروني. هذا منطقي في حال اقتصرت مهمة البريد فقط على رسائل نصية. ماذا لو قرر أحدهم أن يرسل ورودا لأمه مثلاً؟ ماذا يفعل إن كان في بلاد بعيدة؟ متى تصلها الورود وكيف؟ هل يمكنها كما حصل في ذلك التحقيق الصحافي، أن تذهب إلى منطقة نائية، كي تبحث بين أكوام الطرود المرمية عن رائحة ولدها؟ لنعد إلى القراء العاديين الذين يشترون كتبهم من الخارج كيف تصلهم؟ كيف يحققون أحلامهم بامتلاك الكتب دون بريد؟ كيف يطلق رجل زوجته دون بريد؟ كيف ترفع دعاوى المحاكم؟ كيف وكيف وكيف وكيف؟ في كتابه «حول العالم في 76 عاماً « ذكر نقولا زيادة رحلاته إلى منطقة الخليج في أواخر الستينيات. يذكر زيادة أن ( الكويت بدأ العمل فيها بعد الحرب العالمية الثانية. ومعنى هذا أنه مرَّ عليها نحو عشرون أو خمسة وعشرون عاماً وهي تعمل في سبيل التعليم والمجتمع والصحة وما شابه ) يقول زيادة أيضاً ( إن في الكويت مستشفيات كثيرة للحكومة، ومنها التخصصية في كافة المجالات. في كل هذه المستشفيات التطبيبُ مجاناً لجميع المواطنين والموظفين سواء من أبناء البلاد أو من الخارج وحتى لأقربائهم الذين يكونون في زيارة لهم ). يقول هذا الكلام الذي كتب علي شكل مذكرات لواحد من ألمع المثقفين العرب وشيخ المؤرخين. إن الكويت ليست بلداً طارئاً. السلطات الكويتية تسلمت مؤسسة البريد في العامين 1958 للبريد الداخلي و 1959 للبريد الخارجي. كل شيء يقول: إن في الكويت بريد. المؤسسات البنية التحتية والشركات الكبرى والصناعات والتجارة والموانئ ومضخات البترول.. إلخ. لكن لم يقل أحد سوى سعدية في ديوانها السابق الذكر عن الكسل الذي يصيب سعاة البريد. سأدرك بعد فوات الأوان كم هي لئيمة فكرة الرسائل المتأخرة وكم هو رحوم ساعي البريد الكسول. وأن... للرسائل المتأخرة رائحةُ القهوة الباردة بلا نكهةٍ بلا طعمٍ لكنها قهوة. قال فهد: إنه أرسل لي البريد ووصلت كتب سعدية جميعها، ثم بعدها رأيت سعدية كما رأى مريد البرغوثي رام الله. ( 3 ) في مذكراتٍ كتبها الكوبي رامون دوبالما لشيخ يعيش في مانزانيللو أواسط القرن التاسع عشر، كان البريد يصل على ظهور الأحصنة والحمير « كان الحمار يصل إلى مانزانيللو يقف في الساحة بعد الظهر من كل يوم ثلاثاء. بعد وصوله بدقائق كان جمهرة من الناس يتجمعون وكلما نادى على اسم أحدهم تقدم ليأخذ بريده «. لماذا لا يحصل هذا اليوم؟ كان لوركا الشاعر الإسباني ينتظر رسالة لكن فرانكو عاجله بالرصاص. والدة ألبير كامو انتظرت رسائل عديدة، في الغريب يلمح كامو إلى رسائل لم تصل. دوماً هناك رسائل لا تصل، لكنها قليلة ونادرة. الرسائل التي لا تصل هي الرسائل المستحيلة، تلك التي يرميها العشاق في البحر بعد أن يغلقوا عليها القوارير التي إن لم تسحبها الأمواج وتيارات البحر تتحطم على الصخور أو تدفن تحت الرمال. (4) لم يصل الكتاب ومعه اللوحة المائية إلى سعدية، الكتاب الذي يضم قصائد لها مترجمة إلى الفرنسية، أنجزته مرام المصري الشاعرة السورية - الفرنسية واللوحة التي رسمتها أنا لتزين مكتب سعدية في الجريدة لم يصلا إليها، لو كنت ذهبت إلى البحر وأودعتهما لقبطان في ناقلة نفط لربما كانا قد وصلا. لكني اعتقدت أن لا دولة بدون بريد أو أن سعاة البريد في كل مكان يمتلئون بالنشاط كما المرأة الخمسينية التي تقود الدراجة الهوائية وتضع البريد في علبتي كل يوم في الحادية عشرة صباحاً. من يدلني إلى لوحتي، من يمسك بيدي ويأخذني لرؤيتها، الكتابُ أشتري غيره مع أني نسيت الكلمات القليلة التي كتبتها لسعدية في ظاهر الغلاف، كما أني نسيت السطور القليلة التي كتبتها لها على قصاصة صغيرة أودعتها الطرد مع باقي المحتويات. لربما قلت لها أتمنى رؤيتك مرة ثانية هنا في فرنسا، سآخذك لرؤية الثلج وجها لوجه على قمم الجبال، هناك ستنظرين للأسفل في قعور الوديان وربما ترجفين في رهبة المنظر والمكان، وربما قلت لها ممازحاً، عليك لرؤية الثلج فتح باب الثلاجة المركونة في المطبخ. لا أدري ما قلت، لا أذكر، نكتب رسائل لا لكي تبقى في الذاكرة بل لكي تخرج منها ولا تعود. - باريس [email protected]