لقد حان الوقت للتفكير في ما لا يمكن تصوره: فربما أشرف الآن عصر الهيمنة الأميركية في الشؤون الدولية على نهايته. ومع اقتراب تلك اللحظة فإن السؤال الرئيسي يصبح إلى أي مدى استعدت الولاياتالمتحدة لها. إن صعود آسيا على مدى العقد القليلة الماضية لم يكن مجرد قصة نمو اقتصادي سريع، فهي قصة منطقة تشهد نهضة أعادت فتح عقول الناس وتنشيط نظرتهم للمستقبل. إن تحرك آسيا نحو استئناف دورها المركزي السابق في الاقتصاد العالمي يتمتع بقدر من الزخم يجعل وقفه شبه مستحيل. ورغم أن التحول قد لا يكون سلساً دائماً، فلم يعد هناك أي مجال للشك في أن القرن الآسيوي قادم، وأن كيمياء العالم سوف تتغير بشكل جوهري. إن زعماء العالم - سواء كانوا من صنّاع القرار السياسي أو المفكرين- يتحمّلون مسؤولية إعداد مجتمعاتهم للتحولات العالمية الوشيكة. ولكن العديد من زعماء أميركا يتنصلون من هذه المسؤولية. في العام الماضي، في المنتدى الاقتصادي الذي تستضيفه دافوس، شارك عضوان في مجلس الشيوخ الأميركي، وعضو في مجلس النواب، ونائب مستشار الأمن القومي في منتدى حول مستقبل القوة الأميركية (والذي توليت رئاسته). وعندما سُئلوا عن المستقبل الذي يتوقّعونه للقوة الأميركية، أعلنوا كما كان متوقّعاً أن الولاياتالمتحدة سوف تظل أقوى دولة في العالم. وعندما سئلوا عما إذا كانت أميركا مستعدة لكي تصبح الدولة صاحبة ثاني أضخم اقتصاد على مستوى العالم، التزموا الصمت. كان رد فعلهم مفهوماً: فحتى مجرد التفكير في احتمال نزول الولاياتالمتحدة إلى «المرتبة الثانية» يكاد عادل الانتحار المهني بالنسبة لأي سياسي أميركي. والواقع أن المسؤولين المنتخبين في كل مكان يتعين عليهم أن يتكيفوا، بدرجات متفاوتة، من أجل تلبية توقعات الناخبين الذين وضعوهم في مناصبهم. ومن ناحية أخرى، فإن المثقفين لديهم التزام خاص يتلخص في التفكير في ما لا يمكن تصوره والتحدث في ما لا يجوز التطرق إليه. ويفترض فيهم أن ينظروا في كافة الاحتمالات، حتى البغيضة منها، وأن يعدوا الناس للتطورات المحتملة. إن المناقشة الصريحة للأفكار التي لا تتمتع بشعبية كبيرة تشكل سمة أساسية من سمات المجتمع المفتوح. ولكن في الولاياتالمتحدة، لا يفي العديد من المفكرين والمثقفين بهذا الالتزام. فمؤخراً اقترح رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس أن الولاياتالمتحدة «ربما تعيش بالفعل العقد الثاني من قرن أميركي آخر». وعلى نحو مماثل، قال كلايد بريستويتز، رئيس معهد الإستراتيجية الاقتصادية إن «هذا القرن قد يكون في نهاية المطاف قرناً أميركيا آخر». لا شك أن مثل هذه التكهنات قد تثبت أنها كانت دقيقة؛ وإذا حدث ذلك، فإن بقية العالم سوف تستفيد منه. ذلك أن الاقتصاد الأميركي القوي والديناميكي، الذي ينشطه الغاز الصخري الرخيص والإبداع المتسارع، من شأنه أن يجدد شباب الاقتصاد العالمي ككل. ولكن الأميركيين أكثر من مستعدين لمثل هذه النتيجة؛ ولا حاجة إلى إعدادهم لها. أما إذا تحول مركز جاذبية العالم نحو آسيا، فإن الأميركيين سوف يكونون غير مستعدين على الإطلاق. فالعديد من الأميركيين لا زالوا غير مدركين بدرجة صادمة للتقدم الذي حققته بقية دول العالم، وخاصة آسيا. ولا بد لأحد أن يخبر الأميركيين بحقيقة رياضية بسيطة. فالولاياتالمتحدة التي أصبحت تشكِّل 3% من سكان العالم لم يعد بوسعها أن تهيمن على بقية العالم، لأن آسيا التي تشكل 60% من سكان العالم لم تعد ضعيفة الأداء. ولكن الاعتقاد بأن أميركا هي الدولة الفاضلة الوحيدة، والمنارة المنفردة التي ترسل أنوارها عبر عالم مظلم وغير مستقل، لا يزال يشكل نظرة العديد من الأميركيين للعالم. والواقع أن فشل المثقفين الأميركيين في الطعن في مثل هذه الأفكار - ومساعدة سكان الولاياتالمتحدة في التخلص من مواقف تتسم بالرضا عن الذات المبني على الجهل- يديم ثقافة تدليل عامة الناس. ولكن في حين يميل الأميركيون إلى تلقى الأنباء السارة فقط، فإن صعود آسيا ليس بالنبأ السيئ. وينبغي للولايات المتحدة أن تدرك أن الدول الآسيوية لا تسعى إلى الهيمنة على الغرب، بل إنها تحاول محاكاته. فهي تسعى إلى بناء طبقة متوسطة قوية وديناميكية من أجل تحقيق ذلك النوع من السلام والاستقرار والرخاء الذي تمتع به الغرب طويلاً. إن هذا التحول الاجتماعي والفكري العميق الجاري في آسيا يَعِد بقذفها من القوة الاقتصادية إلى الزعامة العالمية. والصين، التي تظل مجتمعاً مغلقاً في نواح كثيرة، تتمتع بعقل مفتوح، في حين أن الولاياتالمتحدة مجتمع مفتوح ولكن بعقل مغلق. وفي ظل التوقعات بأن يرتفع عدد المنتمين إلى الطبقة المتوسطة في آسيا إلى عنان السماء ليقفز من 500 مليون نسمة اليوم إلى 1.75 مليون نسمة بحلول عام 2020، فإن الولاياتالمتحدة لن تتمكّن من تجنب الواقع الاقتصادي العالمي الجديد لفترة أطول كثيراً. لقد أصبح العالم جاهزاً للخضوع لواحد من أكثر تحولات القوة دراماتيكية في تاريخ البشرية. ولكي يكونوا مستعدين لهذا التحول فيتعيّن على الأميركيين أن يهجروا الأفكار الراسخة والافتراضات القديمة، وأن يحرروا الأفكار التي لم تكن متصوّرة. وهذا هو التحدي الذي يواجه المثقفين في الرأي العام الأميركي اليوم. كيشور محبوباني عميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية، ومؤلف كتاب «التقارب الأعظم: آسيا، والغرب، ومنطق العالم الواحدة». *** حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013. www.project-syndicate.org Kishore_Mahbubani