من توقعات الرئيس الأميركي تيودور روزفلت (1901-1909) «إن مستقبل الأمة الأميركية سيعتمد على وجودنا في المحيط الهادي في مواجهة الصين أكثر من وجودنا في المحيط الأطلسي في مواجهة أوروبا». وفي الثمانينات الماضية، توقع الفرنسي جاك آتالي الذي عمل مستشاراً للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، في كتابه «النظام العالمي الجديد» أن «أميركا ستنفصل، عاجلاً أم آجلاً، عن القارة الأوروبية، وستنضم إلى حضارات آسيا - المحيط الهادي». وفي التسعينات الماضية ذكر المفكر السنغافوري كيشور محبوباني أن «البحر المتوسط هو أوقيانوس الماضي، والمحيط الأطلسي هو أوقيانوس الحاضر، لكن أوقيانوس المستقبل هو المحيط الهادي». وكتب المؤرخ نيال فيرغيسون: «أن القرن العشرين شهد تراجع الغرب وإعادة توجه العالم نحو الشرق». وفي العام الماضي رأى كتّاب أميركيون كثر أن هذه النبوءة أضحت في طور التحقق، ففي مقال لهنري كيسنجر في صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» (8/4/2008) إن الإدارة الأميركية والنظام الدولي يواجهان ثلاثة تحديات كبرى، كان الثاني منها هو انتقال محور السياسة الدولية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، وهو ما يفتح الباب أمام أنماط متنوعة ومختلفة من العلاقة بين الدول الرئيسية على ضفتي هذا المحيط، مثل الولاياتالمتحدة والصين. وفي الصحيفة نفسها كتب بول كينيدي متسائلاً: «هل تمر أميركا بفترة من الانحدار النسبي؟ وأجاب: «من المؤكد أنها كذلك، فالتوازنات الاقتصادية الدولية، ومن بعدها التوازنات العسكرية الدولية تتحول حالياً من الغرب باتجاه آسيا، وهو أمر لا يمكن أن ينكره سوى الحمقى». وفي مقال له أيضاً وفي الصحيفة ذاتها في 10 نيسان (أبريل) الماضي، شكك كينيدي في الإجراءات التي اتخذتها قمة العشرين في لندن، لتجنب تفاقم الأزمة المالية العالمية. فالألواح التكتونية، على حد تعبيره، الموجودة في باطن الأرض (التي تقوم على نحو تدريجي وبطيء بتغيير شكل قشرة الأرض)، تواصل حركتها مبتعدة عن الغرب ومتجهة نحو الأجزاء الأخرى الناجحة في العالم، مؤكداً أن هذه التحولات ستؤثر على المؤسسات التي نشأت بموجب اتفاقية بريتون وودز، وعلى مكانة الدولار في أسواق العملات العالمية، وعلى محاولات الاتحاد الأوروبي المستمرة، والتي لم تكلل بالنجاح للتحول إلى لاعب رئيسي في الشؤون العالمية، قبل أن تزيحه الصين والهند جانباً. وهو ما سينطبق أيضاً على مركز الولاياتالمتحدة باعتبارها تمثل الدولة المحورية في العالم. لقد هيمن الغرب على تاريخ العالم خلال القرنين الماضيين، غير أنه لا ينبغي أن ننسى أن أكبر اقتصادين في العالم حتى عام 1820، كما يؤكد ذلك المؤرخ الاقتصادي البريطاني أنغوس ماديسون، كانا الصين والهند. في ذلك العام كانت آسيا مسؤولة عن 60 في المئة من إجمالي الناتج العالمي. وبحلول عام 1940 كانت هذه النسبة قد تراجعت إلى 20 في المئة فقط، على رغم أن آسيا كانت حينها تشكل 60 في المئة من تعداد سكان العالم. وها هو البندول يعود إلى آسيا مجدداً وبسرعة لم يتصورها الغرب. ففي الوقت الحالي تضم آسيا أسرع الاقتصاديات نمواً في العالم، وهي تمتلك نحو 4 تريليون دولار من الاحتياطات الدولية. وتشكل آسيا حالياً 40 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، ويتوقع الخبراء أن تتمكن من العودة إلى مستوياتها التاريخية بحلول عام 2025. وقد توقعت دراسة لمؤسسة «غولدمان ساكس» الاستثمارية في عام 2003 أن تكون الصين والولاياتالمتحدة والهند واليابان، على التوالي أكبر الاقتصاديات في العالم بحلول عام 2050، ، بل إن دراسة أحدث للمؤسسة نفسها أظهرت أن الاقتصاد الهندي يمكن أن يتجاوز نظيره الأميركي بحلول عام 2043. هذا الصعود يتم بصورة سريعة ومذهلة، وهو ما عبر عنه الخبير الاقتصادي ووزير الخزانة الأميركي السابق لورانس سامرز بقوله: «خلال الثورة الصناعية، ارتفع مستوى المعيشة بمعدل 50 في المئة ربما خلال دورة حياتية إنسانية واحدة، أما معدل النمو الحالي في آسيا، فيمثل ارتفاعاً غير مسبوق في مستوى المعيشة يقدر بعشرة آلاف في المائة خلال دورة حياتية واحدة». لكن الأهم في هذا التحول ليس ما تشير إليه الأرقام، بل ما يطرأ على الأذهان والعقول. فأول ما يلفت نظر المراقبين عند زيارة آسيا هو ذلك الشعور القوي بالثقة في النفس والرغبة المتوقدة في تحقيق النجاح، وباتت الثقافة السائدة تمجد التعليم والإنجاز. وقد عبر عن هذا التحول الهائل الذي تعرفه آسيا كلود سمادجا، الخبير الاستراتيجي العالمي، بقوله: «إن ما نلمسه هو انفجار في الحركة وظهور أحلام جديدة. إنها نهاية الهيمنة الغربية والرجل الأبيض». لقد بات هذا التحول أمراً لا بد منه، بحسب ما يعتبره كيشور محبوباني في كتابه «نصف الكرة الآسيوي: التحول الذي لا يقاوم للقوة العالمية نحو الشرق»، إذ يرى أن «الجاذبية السياسية والاقتصادية باتجاه الشرق هي تغيير أكبر وأسرع مما تستطيع فهمه غالبية صانعي السياسة الغربيين». فمنذ عقد تقريباً، تبدل مسار الشرق الأقصى، وتحقق نمو قياسي لمئات الملايين من الصينيين والهنود، الخارجين من البؤس والبطالة. وكتب جيمس بولسن، المحلل الاستراتيجي الاقتصادي، أخيراً: «العالم يشهد الآن أول انتعاش للاقتصاد العالمي تلعب فيه الدول النامية الدور المهيمن. وعلى رغم أن الصين تأتي على رأس هذه الدول، إلا أن حمى النمو والتوسع الاقتصاديين تجتاح كل أنحاء آسيا كبقعة الزيت، تماماً كما حدث في أوروبا في القرن التاسع عشر، حين انتشرت حمى الصناعة من بريطانيا إلى باقي أنحاء أوروبا». ولاحظت مؤسسة الاستثمار الدولية «بريدجووتر إنفستمنت فيرم» أنه للمرة الأولى في التاريخ الحديث، بات نمو الاقتصاد العالمي يعتمد ليس على توسّع الاقتصاد الأميركي أو الأوروبي أو حتى الياباني، بل على اقتصاد دول مثل الصين والهند وباقي النمور الاقتصادية الجديدة». كل هذه المعطيات لن تعني أن الصين - آسيا ستحل قريباً مكان أميركا على قمة الزعامة الاقتصادية والسياسية العالمية، إذ إن أميركا قد تبقى في هذه المكانة لعقد أو عقدين إضافيين. لكن ما هو ممكن هو التأسيس لإمبراطورية عولمية أميركية - آسيوية صينية مشتركة، «تقوم بقذف أوروبا ودورها في العالم إلى أعماق المحيط الأطلسي». على حد تعبير نعوم تشومسكي. هذا الاحتمال بات وارداً بقوة الآن، صحيح أن أحاديث الصعود الصيني إلى القيادة العالمية باتت منذ عقدين على كل لسان، إلا أن أحاديث الصعود شيء والمخاوف من هذا الصعود شيء آخر مختلف تماماً، إذ إن هذه الأخيرة تشي بأن ما يجري هذه الأيام لا يقل عن كونه إعادة تشكيل حقيقية للاقتصاد العالمي تنتقل بموجبها الثروة والقوة بالتدريج إلى شرق وجنوب شرقي آسيا بقيادة الصين. ويعد التسريع بقدوم القرن الآسيوي، إحدى النتائج الاستراتيجية المترتبة على: 1- سياسات العولمة التي بشرت بها واشنطن منذ تسعينات القرن الماضي، والتي استفادت منها الدول الآسيوية، خصوصاً الهند والصين بسبب نقل الشركات المتعددة الجنسيات لإنتاجها إلى هذه الدول من أجل الاستفادة من رخص الأيدي العاملة فيها والقرب من أسواقها الواسعة ومواردها الطبيعية الهائلة، ما ساعد على توطين الصناعات في هذه الدول وهجرة ملايين الوظائف إليها مقابل ملايين العاطلين في دول الغرب. 2- الحرب في أفغانستان والعراق، والتي كلفت أميركا حتى الآن نحو تريليون دولار خسائر عاجلة، ونحو 3 تريليونات دولار خسائر آجلة. هذه الحروب كانت سبباً قوياً في مضاعفة الدين الخارجي الأميركي من نحو 5 تريليونات دولار عند تسلم إدارة بوش أوائل عام 2001 إلى 10 تريليونات دولار عند مغادرتها البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) الماضي. وفي وقت تنشغل أميركا بهذه الحرب، ويواصل حلفاؤها الأوروبيون تقليص برامجهم الدفاعية، يلاحظ انشغال الدول الآسيوية، خصوصاً الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية (فضلاً عن كوريا الشمالية وبرنامجها النووي)، بتحديث برامجها العسكرية. ويمكن القول إن دينامية القارة الآسيوية أصبحت الآن عسكرية بقدر ما هي اقتصادية. أما الجانب الخفي لهذا الاتجاه العام، فهو خسارة الولاياتالمتحدة للمحيط الهادي، بعد أن ظل خاضعاً لها طوال 60 عاماً كما لو كان بحيرة أميركية خالصة. 3- الأزمة المالية العالمية التي تفجرت في الولاياتالمتحدة منذ خريف العام الماضي والتي رتبت تداعيات كارثية على الاقتصادات العالمية، خصوصاً الاقتصاد الأميركي. وتوقع تحليل لوكالات الاستخبارات الأميركية، صدر في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أن يتراجع نفوذ القوة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة خلال العقدين المقبلين. وقال تقرير «الاتجاهات العالمية 2025»، الذي يصدره المجلس الاستخباراتي الوطني كل خمس سنوات، إن الأزمة المالية الحالية هي بداية إعادة موازنة اقتصادية عالمية، وإن دور الدولار الأميركي باعتباره العملة العالمية الرئيسية سيضعف إلى درجة أن يصبح الدولار «الأول بين متساوين». وأن من المرجح أن تنضم الصين والهند إلى الولاياتالمتحدة في قمة عالم متعدد الأقطاب، وأن تنافس هاتان القوتان الصاعدتان أميركا على النفوذ. وقال التقرير «إن النظام الدولي، كما بني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سيتغير كلياً تقريباً بحلول العام 2025، نتيجة لظهور قوى صاعدة، واقتصاد العولمة، وتحويل للثروة والقوة من الغرب إلى الشرق لا سابق له في التاريخ الحديث». وأكد التقرير «أن هذه التغييرات الكبيرة لن تؤدي إلى انهيار كامل للنظام الدولي الحالي. لكن السنوات العشرين المقبلة الانتقالية ستكون محفوفة بالمخاطر ومليئة بالتحديات». لذا قالت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لدى وصولها الى اليابان في شباط (فبراير) الماضي: «لقد اخترت آسيا لتكون أول زيارة لي كوزيرة للخارجية لكي أقول إن العلاقات بين أميركا وآسيا لا غنى عنها في مواجهة التحديات واغتنام الفرص في القرن الواحد والعشرين». فثمة جانب خفي من الأزمة المالية الكبرى الأميركية بدأ يتكشف بعد أن تبيّن أن الولاياتالمتحدة وأوروبا باتتا تعتمدان في صراع البقاء الاقتصادي على أربعة تريليونات دولار من الاحتياطات الآسيوية، إضافة إلى احتياطيات الدول المنتجة للنفط. وهذا ما جعلهما، كما قال مسؤول صيني، «تغرقان في بحر من السيولة الآسيوية». فالحضارة الآسيوية مفعمة بتاريخ من الآلام والظروف القاسية ما يفسر سبب لجوء الشعوب الآسيوية إلى الادخار. والمواطن الآسيوي يعلم أهمية حياة التقشف وأهمية الاستعداد دائماً للأسوأ، لذا تراه يعيب على المواطن الأميركي الذي يقضي حياته اعتماداً على تحرير شيكات غافلاً عن ظروف قد تدهمه بسبب فقدان وظيفته. ولربما كانت الأزمة المالية التي مر بها الاقتصاد الآسيوي بين عامي 1997 و1998 نعمة أكثر منها نقمة. فقد أيقن الآسيويون ضرورة اتخاذ آلية مستقلة تضمن عدم تكرار الركود مرة أخرى، خصوصاً بعد فشل صندوق النقد الدولي والسياسات الغربية في إنقاذ الاقتصاد الآسيوي من السقوط. ومن يومها شرعت الدول الآسيوية في خطة تكديس احتياطات ضخمة من النقد الأجنبي على مدار عشر سنوات. فقد ارتفع الاحتياط الأجنبي لدى الصين من 145 بليون دولار بنهاية عام 1998 إلى نحو تريليوني دولار بانتهاء 2008. وفي الهند ارتفع الاحتياطي من 28 بليون دولار في مطلع 1998 إلى ما يزيد على 315 بليون دولار في حزيران (يونيو) 2008. والمرجح أن تعميق الارتباط بين أميركا والدول الآسيوية الباسيفيكية سينشئ كتلة عالمية هائلة هي «الحافة الباسيفيكية»، وسيكون هذا بمنزلة النصر النهائي لجماعات الضغط الأميركية من أهل السواحل الغربية، بتوجههم المركّز نحو آسيا، على الأميركيين من أهل الشواطئ الشرقية الموالين عاطفياً لكل ما هو أوروبي. * كاتب مصري.