إذا كان البريطانيون يعتقدون أنهم الأكثر إسرافاً وتبذيراً في تعاملهم مع الطعام، لأنهم يرمون في الزبالة حوالي عشرين بالمائة من الطعام الصالح للأكل، فماذا يقولون عن إسرافنا وتبذيرنا هنا في المملكة وفي دول الخليج!؟ إنني أكتب من وحي مشهد عايشته البارحة في وليمة عند صديق سعودي، وليس بريطانياً، لا يتجاوز عدد المدعوين إليها أصابع اليدين الاثنتين لكن الطعام بلا مبالغة يكفي لسد جوع عشرات وربما مئات الأشخاص! تذكرت تقريراً سمعته من الإذاعة البريطانية يفيد بأنّ بعض البرلمانيين البريطانيين أعدوا وثيقة عن تبديد الطعام في بريطانيا ورمي الكثير منه في الزبالة، في الوقت الذي يتضوّر ملايين الأشخاص في العالم من الجوع. ورأى معدو التقرير أنّ هذا الإسراف هو أحد الأسباب التي رفعت معدلات الاستهلاك وبالتالي رفعت أسعار المواد الغذائية والضغط على الموارد الطبيعية، كما أن هذا الإسراف هو خلل أخلاقي يدل على تدني الحس لدى المبذرين بما يعانيه الفقراء الذين كان بالإمكان سد حاجتهم ببعض ما يُرمى ويُتْلف من الأطعمة. من المؤكد أن ظاهرة الإسراف موجودة في المجتمعات الغنية الغربية، لكن ذلك الإسراف لا شيء قياساً بما هو موجود لدينا. فعلى الرغم من أن الجميع هنا يدرك بشاعة الإسراف وموقف الدين منه، إلاّ أنّ العادات الاجتماعية تشجع على الإسراف. فكلنا متورطون في الإسراف حتى ونحن ننتقده! ولو حللتَ ضيفاً على أفقر الناس سوف يحرص مضيفك بقدر الإمكان على تقديم مائدة تفيض عن الحاجة، حتى لو اقترض المال من الغير لدفع قيمة تلك المائدة! في أعرافنا لابد أن يكون الطعام الذي يوضع على المائدة أكثر من حاجة المدعوين أضعافاً مضاعفة. كان لي زميل يدرس في بريطانيا قبل سنوات بعيدة، وكان يسكن أثناء دراسة اللغة الإنجليزية لدى عائلة بريطانية ويدفع لهم إيجاراً شهرياً مقابل السكن والطعام. ولأنه كان لايزال في ذلك الوقت واقعاً تحت تأثير عاداتنا الاجتماعية السعودية، فقد كان يستحي من تناول كل الطعام الذي يضعونه في الطبق رغم قلّته ورغم جوع صاحبنا! أما ربة البيت، وهي سيدة عملية يهمها كثيراً التوفير، فقد بدأت تقلل كميات الطعام التي تضعها في الطبق اعتقاداً منها أنها كانت تقدم لصاحبنا أكثر من حاجته. ولكن عندما لاحظت السيدة أنّ استهلاك الرجل يتناقص يوماً بعد يوم سألته باستغراب وقلق: «هل أنت مريض؟ أنت تأكل مثل عصفور!». وقد احتاج صاحبنا بعض الوقت والكثير من الجرأة لكي يصارح السيدة بأنه يشعر بالحرج أن يأتي على كل ما في الطبق، فأفهمته بأنها لن تضع له في الطبق إلاّ بقدر حاجته وأنّ عليه أن يأكل كل ما في الطبق إذا كان يريد ألاّ يبيت جائعاً! وبعدها تغيَّر صاحبنا وأصبح يأكل مثل البريطانيين. هؤلاء البريطانيون هم الذين يقول عنهم التقرير إنهم مبذرون في الطعام ويرمون في القمامة الكثير منه! فيا للعجب، ماذا نقول نحن!؟ [email protected] ص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض