: رِصَّن عساي أحيا! بين النواهد والحشا والعضودي رصّن عساي أحيا كما إنك دوايا محمد العرفج إذا كانت الإمارة والسياسة تسرق العذوبة من الشاعر الجميل, وتشغله عن دوحة الأدب الفيحاء, فإن أمير بريدة في منتصف القرن الثالث عشر الهجري المرحوم محمد العلي العرفج (ت 1258ه) من أبرز من سرق من عالم الكلمة الجميلة ودوحة الأدب في ميدان الشعر النبطي. وأقصد شعر الغزل تحديداً لأنه أصل الشعر وجوهره في مذهبي. يُعد العرفج من شعراء الطبقة الأولى في الشاعرية, ولم ينل نصيبه المستحق من الاحتفاء الإعلامي لقلة ما وصل إلينا من شعره ليس إلا, فهو بلا أدنى ريب أحد رموز هذا الفن الجميل, ولربما لو تركته السياسة وصراعاتها لأبكى العواتق في خدورها, ولأذاب قلوب العشاق بأسلوبه المتفرد وبسحر نفثاته, وبمعانيه المبتكرة والمجددة وبعذب مفرداته. وتبقى قصيدته (باح العزا مني وضاقت سدودي) إحدى أجمل قصائد الغزل الرومانسي الجميل في الشعر النبطي عبر العصور, فهي من القصائد الخالدة, ومن يقرأها لا يُصدق، كما أشار الإعلامي الشاعر المرحوم محمد المطيري في (عتاب الأحبة)، أنها قيلت قبل مئتي عام!.. والغرابة تكمن في أسلوبها وألفاظها ومعانيها معاً, فهي سلسلة عذبة تذوب في فم القريحة كحلوى حلقوم تركي طازج, وتنتشر في فضاء الذوق انتشار العطر. والبيت أعلاه أحد أبياتها الجميلة وليس الأجمل, واخترته لسياحة اليوم لما فيه من سحر يأسر الخيال, ويجندل الروح بروعة المشهد, وربما استعاذ من يقرأه واستغفر, وربما تمعّر وجهه وشجب واستنكر, والبيت روحي عميق لا جسدي صفيق, ولا يقرأه جسدياً إلا من وقف عند بابه, وفاته الولج إلى ساحاته ورياضه وهضابه. وأظن أن مركز الإشعاع فيه يكمن في كلمة (رصّن) بكسر الراء وتشديد الصاد المفتوحة, بمعنى ضُمّني بشدة, وحُذفت ياء المتكلم من آخره على لهجة أهل القصيم وشمال المملكة. بين النواهد والحشا والعضودي رصّن عساي أحيا! يا لها من ضمة! إنها ضمة الحياة, ضمة الروح للروح, ضمة يراد بها استعادة نبض القلب, والنجاة من الموت. والرص هنا أبلغ من الضم, فهو ضم بقوة, وزيادة قوة الرص دليل على شدة تعلق الراص بالمرصوص, والرص المُلتمَس هنا لا يستعطف في طلبه إلا غريق أو مشرف على سقوط, وأي غرق أشد من غرق الغرام؟ وأي سقوط أدهى من السقوط من هاوية العشق؟!. (رصّن عساي أحيا) هذه هي الغاية لاغيرها, وموهبة الشاعر تجلت في توظيف كلمة (عسى) الراجية, فالرصة هنا كالصعقة الكهربائية التي يلجأ إليها الأطباء اليوم لإنعاش القلب المتوقف نبضه, والرصة والصعقة كلتاهما ليستا مضمونتي النتائج! وعدم ضمان النتيجة في عودة الحياة من عملية الرص هنا لا يعني ضعف أثره بقدر ما يشير إلى عمق حالة المرصوص ووصوله إلى مرحلة متقدمة من انهيار الروح, والإشراف على الهلاك. (كما انك دوايا) وهذه الجملة ليست حشوا كما قد يبدو, بل لها معنى يسُهم في تعميق جمال لوحة الإبداع في البيت الجميل وتركيزه, فالرصة للإنعاش أولاً ثم إنها في الوقت نفسه هي العلاج لشفاء الروح والبسلم لبُرء الجروح, والعلاج معلوم أنه يحتاج إلى تكرار. بين النواهد والحشا والعضودي .. ياله من تحديد ساحر! لماذا هذه الثلاث دون غيرها؟ وأين الجيد والأكتاف وأسفل الجسد؟ أظن أن تفسير هذا يحتاج إلى موضوع مستقل, لذلك سأترك لكم تخيل المشهد والبحث عن التفسير!. [email protected]