أقفت توّدع عمرها اللي معي راح وأقبلت أودّع عقبها عمري الجاي فهد المساعد والبيت يمثل قفلة رائعة لقصيدة جميلة تحكي لقاء وداع رسمه الشاعر في أجواء ملبدة بغيوم الألم، واحتباس المشاعر، مشبعة برذاذ الدموع، ومطلعها: ليلة فراق وبرد وبروق ورياح وصوت المطر يفصل اخطاها عن خطاي وجمال البيت لا يكمن في المفارقة والمقابلة بين شطريه اللذين جمعا أربعة أضداد، بقدر ما يكمن في جمال صياغته، وقبل ذلك في حرارته وتأثيره النفسي الذي عبر بوساطة المفارقة بكل وضوح وعمق عن الألم الذي اعتصر كليهما في لقاء الفراق ذاك، فهي ذهبت حزينة باكية على ضياع عمرها وأيامها السابقة التي أوقفتها على محبته بعدما تبين لها استحالة الاستمرار لظروف لا نعلمها ولم يذكرها الشاعر، وهو ودعها وودع معها قادم أيامه التي ستصبح بدونها بلا معنى، لأن ذهابها كان - كما يقول - إعلانا لوفاته! ذهبت باكية.. مجروحة.. كسيرة.. محبطة، وهو ذهب قتيلا يتنفس، ذهبت لتدفن ماضيا وتباشر مستقبلا جديدا، وهو ذهب ليدفن ماضيا ومستقبلا معا! والقتيل غير الجريح، فالجرح مهما يكن عميقا الأيام كفيلة به، يقول عبدالله العليوي: على الجفا من طول صبري تعلمت «والجرح في قلبي تداويه الأيام» لكن من يداوي الموت؟! افترقا فراقا حضاريا هادئا لكنه مؤلم عميق الألم، مضى كل منهما إلى سبيله بغير رغبته، افترقا وكل منهما لا يزال يريد الآخر، إرادة روح ومشاعر، منجذب إليه انجاذابا تلقائيا.. لكن العقل يرفض، وكأن فاصمة الفراق أقوى من رابطة الحب، أهي الكرامة يا ترى؟ لا شيء يقهر الحب سواها.. القصيدة كلها تصلح أن تكون سيناريو ل(كليب) أغنية حزينة، فالشاعر جلب لها من المؤثرات الصوتية والبصرية ما يثير الأشجان، فالفراق الملتهب كان في ليلة برد ورعود وبروق ومطر وعواصف، لذلك يبدو لي أن الحدث فيها افتعلته قريحة شاعر متمكن، خبير بمؤثرات الروح، أجاد في تصوير البطل بالفروسية وهو يملي عليها وصاياه الأخيرة وهي صامتة اللسان، دامعة العين، صاخبة القلب، تنتفض خلاياها من الألم انتفاض طائر علق جناحه، وأبدع في تصوير لحظات الفراق الأخيرة بهذا المشهد المؤثر. فهد المساعد شاعر شاب موهوب، مطبوع، من أجمل وأعذب من يكتب القصيدة الرومنسية النبطية هذه الأيام، شعره سلس، ولديه قدرة مثيرة على صياغة الأشواق، والتعبير عن اللواعج بعذوبة، وقدرة على ابتكار المعاني المدهشة، وتجديد المعاني المبتذلة، وصقلها بأسلوبه الجميل، أما لغته الشعرية فهي لغته التي يتكلم بها في حياته، فهو لا يتخلى عنها لأجل وقار الشعر، بل يعبر بها كما تنساق قريحته، وهذا أعطى شعره تلقائية وعفوية، ومنحه حرية في التعبير عن المعنى الرومنسي كما تلتقطه خلايا الإحساس في شخصيته، يقول من قصيدة عذبة: ياما ترددت مدري كيف ابشرح لك أجيك وأرجع أبيك تقول وش جابك يا ابن الأوادم ترى ملّيت ألمّح لك أنا أعزك وأحبك وأعشق ترابك لا ضقت أضيق ومتى ما تفرح أفرح لك ولا غبت أموت ومتى ما شفتك أحيا بك إن كان ودك ترسّيني على كحلك لمّيت عمري وخاويتك على أهدابك وعبارة (أعشق ترابك) عبارة دارجة في تعبير الشباب ولعلها إلى الغزل بالوطن أقرب منها إلى الغزل بالحبيب! أما البيت الأخير هنا (إن كان ودك ترسّيني..) فهو نموذج للصور السريالية الحديثة التي تبهر القارئ والسامع وتخلب لبه وتنقله إلى عالم التخيل، لكنه إذا فتش فيها عن عمق معنى مؤثر لم يجد إلا السراب! وهذا النوع من الصور أولع به كثير من الشعراء خلال العقدين الأخيرين وتفننوا فيه استعراضا للشاعرية ليس إلا.. [email protected]