قال الشيخ تركي بن راشد بن محمد العبدالكريم خطيب جامع الشيخ عبدالعزيز الرشيد - رحمه الله - بالرياض إن الاعتداءات الإعلامية على بلادنا - أعزها الله وحرسها - لتحرك القلوب وتستثير العزائم في رد العدوان والدفاع عن بلاد الإسلام، فما تلك الحملات المسمومة التي يروجها الأعداء وأتباعهم إلا كيداً للإسلام وطعناً في الدين، وتشويهاً لحملته ودولته. وإن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يدرك خطورة هذا الوضع، وأن يتنبه إلى كيد الأعداء. فكلنا ندرك أننا في بلد ضمنا ووحدنا وجعل لنا مكانة بين العالمين. تربينا على ترابه نوحد الله عز وجل، نسمع الأذان ونقيم الصلوات وندرس العلم الشرعي في مدارسنا، يتعاهدنا الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بالنصح والتوجيه، ولا تشاهد سوى المحاكم الشرعية التي يقوم بها القضاة الصالحون. فهذا البلد بالنسبة لنا مثل نفوسنا تماماً، لا يمكن أن نفرط فيه، ويستحيل أن نسيئ إليه، فخيره وفضله أصل من الثوابت عندنا. وأما أخطاؤه فهي مثل الأمراض التي تطرأ على الجسم تعالج بما يزيلها أو يخفف ضررها. وما من مجتمع إلا وفيه أخطاء، كما هي طبيعة البشر. وقد أراد الأعداء بنا سوءاً فنقض الله - عز وجل - قصدهم، وأفسد مخططاتهم فقلوب أهل هذا البلد قد ازدادت اجتماعاً، وأحس الجميع بمكانة وطنهم وهكذا الشدائد والمحن تنقلب في حق أهل الإيمان إلى فرح ومنن، فالله تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وأضاف الشيخ العبدالكريم: وحب الوطن فطرة فطر الله عز وجل عليها المخلوقات في الأرض. فالإبل تحن إلى أوطانها، والطيور تحن إلى أعشاشها وأوكارها. أما الإنسان فحنينه إلى وطنه أشد وشوقه إليه أكبر، يقول الإمام الزاهد إبراهيم بن أدهم: «عالجت العبادة فما وجدت شيئاً أشد علي من نزاع النفس إلى الوطن» (أبو نعيم في الحلية). فهو إذا جلس في مكة مثلاً نازعته نفسه إلى الرجوع إلى وطنه بغداد. ويقول أيضاً: ما قاسيت فيما تركت شيئاً أشد علي من مفارقة الأوطان. ومن حكمة الله - عز وجل - في تسخير الناس لعمارة الأرض أن جعل حب الوطن - حتى ولو كان قليل الخير - متأصلاً في النفوس مجبولة عليه، كما قال أمير المؤمنين عمر الخطاب: لولا حب الوطن لخرب البلد السوء. (البيهقي في المحاسن والمساوئ)، وجاء بلفظ: عمّر الله البلدان بحب الأوطان (تذكرة ابن حمدون). فترى البلد القليل الأمطار الكثير الحر أو الكثير الأوبئة، ومع هذا لا يعدل به أهله جنات في الأرض وأنهاراً. وأكثر من ذلك أن الوطن قرين النفس في كتاب الله عز وجل، كما قال القاضي الفاضل: «الخروج من الديار مقرون بالقتل في كتاب الله عز وجل، وإذا كان الناس كما قال الشاعر نفوس الديار، فخروجهم منها قتلها، وانتقال ولايتهم عنها عزلها» وهو يشير رحمه الله إلى قول الله تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً..}، قال بعض المفسرين: لو شددنا على الناس التكليف كأن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لشق ذلك عليهم وما فعله إلا القليل من الناس ممن رسخ الإيمان في قلبه، فلما لم نفعل ذلك رحمة بالعباد، بل كلفناهم من الأمور ما يطيقون، فعليهم أن يستجيبوا ويؤمنوا ويتركوا العناد والتمرد، ففي الآية تصريح أن قتل النفس والخروج من الوطن شاق على النفوس، ولذا لم يجعله الله علينا كما جعله على بني إسرائيل عقوبة أن يقتلوا أنفسهم ولا يستقرون في وطن، فالحمد لله - عز وجل - الذي عافنا. وقال: وبما أن الوطن بهذه المنزلة وله هذه المكانة، فهل حبه والحنين إليه يؤجر عليه المسلم، وهل الدفاع عنه والحفاظ عليه فرض على جميع المسلمين؟ إن حب المسلم لوطنه الذي قام الإسلام عليه وارتفع فيه حتى أصبح وطناً للمسلمين وبلاهم، لهو حب مشروع، يجتمع فيه الحب الفطري الغزيري، والحب الشرعي، وما تولّد حب الوطن إلا عن حب الأهل والأقارب والجيران، ثم عن تعلّق كل إنسان بمحل ولادته ومكان نشأته. وقد قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها. وأبيات الشعراء ومقالات الحكماء في ذلك كثيرة جداً. ومن جانب آخر حب الوطن تولّد من حب شعائر الله التي تقام عليه، ومن حب العلم الذي يكتسبه المسلم فيه، ومن حب اجتماع المسلمين وتنظيم أمورهم لعمارة الأرض على ترابه. وبيّن الشيخ العبدالكريم: فحب الوطن الإسلامي نبه عليه الشارع الحكيم في مواطن متعددة، منها: «ما جاء من النصوص التي تفيد أن حب الوطن مشروع، يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري على حديث أنس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته - أي أسرع بها - وإذا كانت دابة حركها من حبها» قال رحمه الله: فيه دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه. ونبه الحافظ ابن كثير والحلبي في سيرته وغيرهما على أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أن يحبب الله إليهم المدينة كحبهم مكة أو أشد، إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، وذلك لحديث عائشة في الصحيحين: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» وفي الصحيح عن عائشة في قصة الوحي أن ورقة بن نوفل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟! قال: نعم. قال الحلبي في سيرته: الاستفهام الإنكاري هنا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته، خصوصاً وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه. وفي إشارة نبوية كريمة نبه عليه الصلاة والسلام إلى أن تربة الأرض يعيش فيها الإنسان قد تكون عنصراً من عنصر الدواء الذي يشفيه الله عز وجل به، فهذا طب نبوي. ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها حيث قالت: كان رسول الله يرقي المريض فيجعل في أصبعه ريقه ثم يضع الأصبع على التراب فيعلق بها التراب، ثم يقول: «بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفي سقيمنا بإذن ربنا». وهذا الأمر موجود عند الأطباء قديماً كما ذكره ابن القيم في زاد المعاد، فأكده صلى الله عليه وسلم، ونقل الحافظ بن حجر عن البيضاوي أنه قال: شهدت المباحث الطيبة على أن تراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر كل ذلك يشهد، بأن هذا الطب النبوي طب صحيح، وأنه حق. ولهذا في العصر الحديث أثبتت الدراسات أن لبعض عناصر التراب خاصية في علاج بعض الأمراض، ولذلك أُدخلت في تركيبة بعض الأدوية التي يتناولها الناس. وكان الناس في قديم الزمن، منهم من يتغير عليه الماء في سفره فيمرض ولذلك يحملون تراب وطنهم معهم ويضعونه في قربة ونحوها ويملؤنها من الماء الذي يمرون عليه في طريق سفرهم فيسلمون بإذن الله عز وجل من الضرر. (وقد يكون ذلك فيه قتل لبعض الفيروسات). يقول الجاحظ في كتابه الحنين إلى الأوطان: رأيت بعض البرامكة إذا سافر أخذ معه تربة مولده في جراب يتداوى به أ.ه. وهذا كله في التداوي لا كما فهم بعض الجاهلين أنه تبرك أو نحو ذلك. الأمر الآخر: مما قرره الشارع من وجوب الدفاع عن المسلمين بالنفس والمال والكلمة المقروءة أو المسموعة. وهذا إجماع من المسلمين؛ بل من صور تعِّين الجهاد على كل فرد من أفراد الأمة إذا دهم العدو بلاد المسلمين وجب على أهل هذا البلد أن يدفعوا عنه قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا...} ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات.. وذكر: التولي يوم الزحف». ويؤكد القتال في الدفاع عن بلد المسلمين قوله تعالى عن بني إسرائيل: {ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا}. فصاحب الفطرة السيمة والدين المستقيم يجد حرمة بلده في قلبه، كحرمة أهله، أو أبويه، وإخوانه، كما قال بعض الحكماء: تربة الصبا تغرس في النفوس حرمة، كما تغرس الولادة في القلب رقة. ولا يوجد أحد منا هذّبه الإسلام وامتلأ وفاءً وبقي على فطرة الله عز وجل إلا مفعم بالتفاخر به والاعتزاز به، هذه المعاني الكبيرة التي توجد بداخلنا، تظهر أقوى ما تكون في صور: الأولى: إذا سافر الإنسان منا، فإننا مهما ذهبنا إلى أرض هي أجمل من أرضنا، أو أغنى من أرضنا، فإن مشاعر الحب للوطن ينفذ صبرها عن الكتمان فتبوح بالحنين إلى الوطن والتشوق إليه، بعبارات يتلوها اللسان أو دموع تذرفها العينان، وهذا من علامة كمال العقل، كما قال بعض السلف: «من أمارة العاقل: بره بإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل زمانه». أضاف: وتأملوا أحاكماً شرعية عللها العلماء - رحمهم الله - بكونها شرعت لأجل ما في مفارقة الأوطان من الشدة على النفس. فالتعزير - مثلاً - قد يكون بالنفي عن الوطن، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله: «والنفس تحن إلى الوطن إلا إذا اعتقد تحريم المقام به أو أنه مفسدة دنيوية» وأيضاً ذكروا في باب الإكراه: أن من خوّف بالنفي عن البلد، فذلك إكراه؛ لأن مفارقة الوطن شديدة» ذكره النووي. وفي حد الحرابة ذكر الشافعي - رحمه الله - في أحد قوليه: إلى أن معنى قوله سبحانه وتعالى: {أو ينفوا من الأرض} أي: يخرجون من وطنهم وعشيرتهم. قال يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلاناً وذلة، فكل من وقع عليهم التعزير بترك وطنه أو وقع عليه الإكراه بترك وطنه، فكل هؤلاء يتمنون الرجوع إلى الوطن. فالذي يخرج من الوطن سواء كان لسفر باختياره أو خرج مرغماً فإنه يتمنى الرجوع إليه ويتألم بالبعد عنه. ففي حال الخروج بأي صفة من الصفات يثور التعلّق العاطفي بالبلد. وهذا أمر يعرفه كل واحد من نفسه فلا داعي لتأكيده. والصورة الأخرى: إذا مست بلدك بسوء صغيراً كان أم كبيراً. تحركت فيك مشاعر الحب فدافعت عنها. أو عبث بأمنها مفسد، فهنا تتفجر جميع المشاعر الكامنة فيك فلا ترى نفسك الغالية إلا في أرض عهودها، تجود بها وتحملها على راحتيك لعل وطنك الإسلامي لا يصاب بأذى. وهذا أمر مضى عليه الناس قديماً وحديثاً. فانظر إلى التضحية العظيمة ببذل النفس والأولاد في سبيل الدفاع عن بلاد المسلمين. هذه بعض الصور التي تظهر من خلالها مشاعر الحب للوطن في صدق ووضوح وجلاء، وهناك صور كثيرة كلها تشهد أن حب الوطن من الإيمان. وحيث مررت على هذه المقولة فإنني أقول: إن هذه المقولة ليست حديثاً عن النبي، بيد أن معناها صحيح، كما قرر ذلك بعض العلماء كالسخاوي وغيره، وقد قيل إنها مقولة لبعض السلف، وما وجه صحتها، أقول: إنما كان حب الوطن من الإيمان بحسبان أن أرضه موطن لإقامة أكثر الشعائر كالجمعة والجماعة وغير ذلك، ولهذا لا تستحب العزلة عن الوطن؛ بل تكره أو قد تحرم، إلا في زمن هرج ومرج وفتن فتجوز. وأيضاً الإقامة في الوطن فيها من تهيئة النفس للقيام بالعبادات والتقوي عليها، وهذا أمر واضح جلي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى أحدكم حجه فليعجّل الرجوع إلى أهله فإنه أعظم لأجره» (رواه الحاكم عن عائشة وهو حديث صحيح) يقول العلامة المناوي في شرحه: قوله فليعجل: أي فيسرع ندباً، الرجوع إلى أهله: أي وطنه وإن لم يكن له أهل - ولاحظ هنا أن الشارع يعبر بالأهل ويريد به الوطن فإنه أعظم لأجره: لما يدخله على أهله وأصحابه من السرور يقدومه، لأن الإقامة بالوطن يسهل معها القيادم بالواجبات من العبادات وبوظائف من الطاعات، وإذا كان هذا في الحج الذي هو أحد دعائم الإسلام، فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى. ومنه أخذ أبو حنيفة كراهة المجاورة بمكة، وخالفه صاحباه والشافعي، يقول المناوي: وفي الحديث ترجيح الإقامة على السفر غير الواجب. وبهذا يتضح أن محبة الوطن لها تعلّق بالإيمان من جهة محبة أماكن الطاعات وما يتهيأ بالإقامة والاستقرار من عمارة الكون الذي أمر الله بعمارته، وأداء الشعائر الدينية، وصلة الأرحام والتمكين في الأرض وغير ذلك. فما نصيب بلادنا من هذا الحب؟ وأردف الشيخ العبدالكريم يقول: إن وطننا - المملكة العربية السعودية - قد قد اجتمع فيها الحبان: الحب الفطري الغريزي والحب الشرعي، بلاد قامت على منهج الإسلام الوسط، لا مظاهر للخرافة فيها، ولا مكان للشرك، الحكم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو أساسها، فالمحاكم الشرعية التي يقوم عليها قضاة عدول، هي التي تصدر أحكام الله - عز وجل - في جميع أمور الناس، فما أجمع عليه المسلمون لا يخرج عنه قيد أنملة، فلا يأتي أحد يقول في مسألة من المسائل بقول من أقوال العلماء ثم يرى إن الحاكم إذا خالفه فقال بالقول الآخر؛ فهو حاكم يغير ما أنزل الله، إلا وذلك المدعي مفتر على الشرع خارق لإجماع الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - فالمسائل الاجتهادية، قرر العلماء أنه لا إنكار فيها لأن الأدلة قد تتكافأ، وفهوم أهل العلم تختلف في النصوص، ولهذا ذكر العلامة ابن القيم وغيره أنه لا يقطع في مسألة اجتهادية بأنها هي حكم الله سبحانه وتعالى. كما ذكر ذلك في أحكام أهل الذمة وتوسع في هذا الفصل. وهذه البلاد فيها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي لا توجد في غيرها من البلدان. وفيها من الأمن والأمان ما هو مضرب مثل عند العارفين المدركين للأمور والأحوال. هذه البلاد استطاعت في هذا الزمن أن تثبت للناس أن هذا الإسلام وهذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لكل زمان ومكان، وأنه لا يتعارض مع العلوم العصرية والتطورات الحضارية، بل يستفيد منها بما يكفل للفرد والمجتمع حياة هنيئة سعيدة متطورة في ظل شريعة الله - جل وعلا - واكتساب ثوابه الأخروي، فهي تجمع بين حياة الروح وحياة الجسد، ولذا أصبح أهل هذه البلاد لهم مكانة مرموقة في جميع أنحاء العالم، مما أثار حسد وحقد الأعداء إلى الخير المادي الوفير. أما فخر هذه البلاد، فهو وجود المدينتين المقدستين في حدودها. فمكةالمكرمةوالمدينةالمنورة في بلادنا، هذا فضل كبير وهو محل للفرح والابتهاج بفضل الله - عز وجل - لأن حب هاتين الأرضين الطاهرتين دين وقربة لله عز وجل. هذا باجماع المسلمين، فحبهما من الإيمان وبغضهما من النفاق. وحبهما بالحفاظ على أمنهما والابتعاد عن الإحداث فيها أو الإلحاد. قال الله عز وجل: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} يقول عليه الصلاة والسلام جبل أحد: هذا جبل يحبنا ونحبه، فأرض مكة وأرض المدينة نحبها ونشتاق إليها. اقرأوا ما كتبه العلماء وما كتبه المفكرون والأدباء - أهل الإنصاف واعملوا أذهانكم. لا ريب أنكم سترون أو كل ذلك ينطق لكم بصوت ناصح أمين: إنكم في خير عظيم أكثر من الناس يتمنون عشر معاشره، وهذا مما يعلم ويدرك، لكن زيادة التأمل ترسخ المعتقد وتزيل الشبه وليس يا أخي من شرط الوطن أن يكون كاملاً لا نقص فيه، فهذا أمر مستحيل، لكن حسبنا القرب من الكمال، والتقدم نحو الأحسن. وأقرأوا ما دبّجه العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز كما في مجموع فتاواه (1/384) وتأملون: (إن بعض المؤرخين لهذه الدعوة يقول: «إن التاريخ الإسلامي بعد عصر الرسالة والراشدين، لم يشهد التزاماً تاماً بأحكام الإسلام كما شهدته الجزيرة العربية في ظل الدولة السعودية التي أيدت هذه الدعوة ووافقت عنها» ولا تزال هذه البلاد - بحمد الله - تنهم بثمرات هذه الدعوة أمناً واستقراراً ورغداً في العيش ويعد عن البدع والخرافات، والمملكة العربية السعودية حكاماً وعلماء يهمهم أمر المسلمين في العالم كله ويحرصون على نشر الإسلام في ربوع الدنيا لتنعم بما تنعم به هذه البلاد)أه. هذا قول أكبر علماء الإسلام في وقته، ولا أظن أن أحداً منا لا يعرف هذه الشخصية الدينية التي اشتهرت بالعلم والصدق والصلاح والكرم والإنصاف وطلب الحق، ولو أدنا أن ننقل كلام العلماء والكبار والمنصفين من السياسيين والكتّاب والأدباء في هذا المجال لطال الكلام بنا جداً. الحرمان من الوطن عقوبة شديدة، ألمها كبير ووقعها عظيم على النفس والجسم. لمّا غضب الله عز وجل على بني إسرائيل حين لم يستجيبوا لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام في دخول الأرض المقدسة، حكم عليهم بأن يتيهوا في الصحراء أربعين سنة، قال تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين} فحرم الله عليهم دخول الأرض المقدسة تحريم منع لا تحريم نهي؛ فهل يسعى إنسان إلى أن يحرم من أرضه، أو يجعل وطنه مسرحاً للفوضى والانتهاكات في الدماء والأموال والأعراض. إن الذي يفعل ذلك قد أصبح عدواً لدين الله عز وجل، عدواً لبلاد الإسلام، ووطن أهل الإسلام، ومعنى ذلك أنه عدو لأهله وجيرانه وأقاربه، إنه بفعله المشين قد تنكر للجميع وقابل الإحسان بالإساءة، وقد وقع في الخلل الكبير في التفكير وتغيرت فطرته عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. ولا يقع هذا الاعتداء والانتهاك إلا ممن اتبع هواه، وأضله الله عز جل على علم، وابتعد عن هدي الله الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم. ليس العداء للوطن الإسلامي مقتصراً على صورة إشاعة القتل فيه والنهب والفوضى حتى لا يصلح مكاناً للسكن، وإقامة شعائر الله عز وجل؛ بل صور العداء كثيرة جداً، فكل ما من شأنه أن يفسد البلاد على أهلها، أو يسيء إليه بكلمة تعين على الفساد والإفساد، فكلمة عداء للدين ولبلاد المسلمين، ومكر لبلاد المسلمين، ومثله: إحداث الأحزاب الخارجة عن جماعه المسلمين وإمامهم. واختتم تصريحه قائلاً: وهكذا نجد أن الإسلام رعى حقوق الوطن ما دام محلاً لمسلمين ومكاناً لإقامة الشعائر الدينية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم» (الطبراني وغيره) والطريق جزء من أرض الوطن وترابه، وهكذا أحكام كثيرة كلها لها ارتباط بهذا المعنى. ما مر تلك هي وطنية أهل الإسلام، وهي تخالف تماماً بعض المفاهيم المغلوطة الذين أرادوا أن يكون الوطن إلهاً من دون الله وأن يقدم على دين الله عز وجل وشرعه ليس عند هؤلاء جديد في الخير، إن قالوا نريد بالوطنية حب الأرض وإلفتها والحنين إليها، قلنا هذا أمر مغروس في الفطر من جهة، مأمور به من دين الإسلام من جهة أخرى، إن بلال بن رباح الذي هاجر بدينه من مكة إلى المدينة كان يحن إلى مكة في أبيات رقيقة أقره عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل ثم يقول بلال: «اللهم العن شيبة بن ربيعة وعقبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم يقول الحافظ بن حجر: أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا» ثم يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد. وإن قالوا نريد تقوية الروابط بين أبناء البلد والواحد وإرشادهم إلى استخدام هذه القوة في مصالحهم. قلنا: الإسلام أمر بذلك وحث عليه في أوامر صريحة {إنما المؤمنون إخوة} و{كونوا عباد الله إخواناً} فالشاهد: أنه ما من مزية حسنة جاء بها هؤلاء إلا سبقهم الإسلام بها. فنحن نرعى حق وطننا ونرعى حق كل أخ مسلم في الشرق والغرب من العرب أو العجم من البيض أو السود بحسب قدرتنا، ولذا أفضال هذه البلاد المباركة على المسلمين في العالم محل تقدير، ومحل إجلال من المنصفين، وقد تقدم لنا كلام العلامة ابن باز - رحمه الله - في ذلك، فالواجب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ما أصيبت أمه الإسلام فيما أصيبت من محن ورزايا في هذه العصور المتأخره إلا حينما قلت عنايتها بكتاب الله وضعف تأثيره في نفوس كثير من أبنائها حتى نشأت ناشئة من بني الإسلام لا تعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه وحتى تسرب إلى عقول بعض بني الإسلام الأفكار المشبوهة والاتجاهات المضللة والدعوات المنحرفة بتلقفها بعض أهل الأهواء والشهوات ممن ضعف فيهم الإيمان وقل حظهم من هداية القرآن فأخذوا يجاهرون بتلك الأفكار والدعوات غير عابئين بخطورتها على البلاد والعباد ولا مبالين بسوء عواقبها رغم مخالفتها لهدي القرآن وتعاليم الإسلام.