كلما لقيته رسم أمامي لوحة ابتسامته البريئة المرفرفة على ثغر لم تفلح الشيخوخة في إخفاء معالم صفائه ونقائه، وما أكاد أقترب منه حتى يمد إلي يدا راعشة مصافحا وهو يقول: متى يا بني تلبي دعوتي وتشرفني على (فنجال قهوة ورطيبات)؟؟ ظللت على حالتي معه، دائم الاعتذار بمشاغل الحياة، أو بأنني على موعد، وظل على حالته كلما لقيته يوجه إلي دعوته مبتسما، قائلا، إذا اعتذرت منه: متى تنتهي المشاغل والمواعيد يا بني؟، وكثيرا ما يقول حينما ألح في اعتذاري: والله لو بعث الله لنا أهل القبور جميعا وسألناهم هل أنهيتم مشاغلكم في الدنيا قبل موتكم، لقالوا جميعا: لا والله، بل حال الموت بيننا وبينها، وربما أعاد علي القصة المتداولة كثيرا في مثل هذا الموقف أن رجلا دعا صاحبه إلى زيارته فاعتذر بمشاغله، وكانت المقبرة قريبة منهما فقال له: أما ترى هذه المقبرة؟ فقال: بلى، فأجابه بأن من فيها ماتوا ولم تنته مشاغلهم في الحياة. وبرغم ذلك كله فإنني كنت دائم الاعتذار منه، لأنني لا أذهب إلى الحي الذي يسكنه إلا لمواعيد عمل مرتبة. ومضت الأيام بي في دروب الحياة، وانقطعت عن ذلك الحي الذي يسكنه الرجل، فلم نعد نلتقي، ولربما نسي كل منا صاحبه، كما هي عادة معظم الناس حينما تتفرق بهم سبل الحياة. ذهبت إلى إحدى المستشفيات زائرا لصديق وأمام المصعد سلم علي شاب لا أعرفه قائلا: أنا فلان، جدي فلان الذي لم تستجب لدعوته منذ سنوات. قلت له وقد فاجأني بما قال: وما أدراك بما جرى بيني وبين جدك؟ قال مبتسما: كلما رآك في برنامج أو لقاء إعلامي، حدثنا عنك وأخبرنا بلقاءاته معك، ودعوته لك إلى المنزل واعتذارك بالمشاغل، قلت: كيف صحته الآن ؟ قال: هو في هذه المستشفى منذ أسبوع في حالة غيبوبة. شعرت أن الدنيا تدور بي، وتمنيت لو أنني لبيت إحدى دعواته، وأحسست بهوان الدنيا، وسرعة رحيلنا منها. صعدت مع الشاب إلى جده وسلمت عليه، ولكنه لم يشعر بي هذه المرة، ولم يرسم أمامي لوحة ابتسامته الصافية، ولم يمدد إلي يده الراعشة، ولم يدعني لتناول فنجان قهوته ورطيباته، كان في عالم آخر، وقد رحل عن الدنيا بعد ذلك بأيام -رحمه الله -. إشارة ما أقصر الدنيا، وما أشد اغترار معظم أهلها بها