ورد للكعبة اسماء، جاءت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة ومنها ما عرف عند العرب، منها غير الكعبة البيت، وبيت الله المحرم، والقبلة، وبكة، وغير ذلك من الاسماء الاثني عشر التي قيل إنها تعني الكعبة، التي شرّفها الله، فكانت بيتاً في الارض لطاعة الله، وفرض سبحانه محبته في قلوب المسلمين، والاتجاه إليه في صلواتهم كل يوم وليلة خمس مرت اينما كانوا على وجه الارض، كما فرض سبحانه حجه على الناس مرة واحدة لمن استطاع، يقول سبحانه: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (آل عمران 97). هذا البيت الذي شرفه الله، وأعظم أجر من حجه او اعتمره قد قال فيه سبحانه: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ، (البقرة آية 125)، قال السيوطي في الدرّ المنثور: وإذ جعلنا البيت قال زيد بن أسلم الكعبة، وقال ابن عباس في مثابة للناس يثوبون إليه ثم يرجعون، لا يقضون منه وطراً يأتونه، ثم يرجعون الى اهليهم، ثم يعودون إليه، وقال عطاء: يأتون إليه من كل مكان. وفي قوله تعالى: مثابة للناس ، قال مجاهد: يأتون إليه، لا يقضون منه وطرا أبدا، يحجون ثم يعودون وأمناً قال: تحريمه، لا يخاف من دخله (1:289). هذا البيت المعظّم، الذي هو مرنا أفئدة المسلمين، ومحطّ افئدتهم، قد جعله الله سبحانه في حراسة أمينة وهيأ له منذ اكثر من قرن، ولا يزال حكومة تخدمه وتبذل في سبيله الجهد والمال، وحظي بعناية ورعاية في المحافظة والحراسة والاصلاحات والخدمات، لم يسبق لها مثيل في التاريخ. يبرز اثر ذلك من كثرة الوافدين اليه في كل عام من انحاء الارض قاطبة: حجّاجاً وعماراً وزواراً، ومتعبدين، ففي كل موسم يقدّر عددهم بالملايين، جاءوا من كل فجٍّ عميق، يذكرون الله ويسبحونه ويحمدونه، ويرجون مغفرته، وطلب رضوانه سبحانه وجناته، ويخافون عقابه، ويستعيذونه من عذابه والنار. لقد قامت الدولة السعودية منذ عام 1157ه لنصرة دين الله، وتصحيح عقائد المسلمين مما أدخل عليها، ووضعت نصب أعين قيادتها: النصح والارشاد للمسلمين وتبصيرهم بما ادخل على الدين وهو منه براء، ولما وصل قادتها الى مكة وقاد الامام سعود بن عبدالعزيز (1163 1229ه) الحجيج تسع مرات، حرصوا على خدمة بيت الله الحرام، تعظيما له وتيسيرا لأمور المسلمين الوصول إليه وخدمتهم. فقد عمل اصلاحات في الحرم، واهتم بسكان الحرمين ووزّع عليهم الاعطيات، ثم من جاء بعدهم في الدولة السعودية في الدور الثالث الذي أعاده الملك عبدالعزيز رحمه الله، وبعد دخوله مكة في عام 1343ه، وحتى الآن وهم يبذلون الجهد والمال لإراحة المسلمين، ولن نتعرض لأعمالهم، التي تكبر وتتزايد مع الايام، اهتماما وبذلا وتخطيطا، وإراحة للوافدين للأماكن المقدسة للعبادة وأداء الشعائر في الاماكن، ولكن سوف نشير في مقالات عن بعض الأمور، التي تبرز امام كل وافد ويراها بأمِّ عينيه عملاً جباراً يفوق الوصف، توسعة عظيمة للحرمين الشريفين، تستوعب الملايين دفعة واحدة، وبناءً شامخاً في المسجد الحرام، يؤدي فيه المصلّون في الحج ورمضان وغيرهما العبادة بيسر وسهولة، في ادوار اربعة، زيادة على الساحات المحيطة به، مع الخدمات المريحة للاعداد الكبيرة الوافدة من ديار الاسلام. ولكننا في هذه الحلقة، سوف نقصر الامر على العناية بالكعبة المشرفة، وما وضع لها من اهتمامات وخدمات، وعناية بكسوتها. فقد ذكر ابن بشر (1210 1290ه) في تاريخه: ان الإمام سعود بن عبدالعزيز في حججه التسع التي كان آخرها عام 1227ه، كان يكسو الكعبة، ففي عام 1221ه، قال: فيها حج سعود حجته الثالثة، وبذل في مكة شيئا كثيرا من العطايا والصدقات، ونزل قصر البياضية الشمالي,, وكسا الكعبة المشرفة كسوة فاخرة من القز الأحمر، ثم كساها بعد ذلك بالقيلان الفاخر (1:133) وقال: في عام 1222ه حج سعود حجته الرابعة، وبثّ في مكة من الصدقات والعطاء لأهلها وضعفائها شيئا كثيرا، وكسا الكعبة المشرفة كسوة فاخرة من القيلان الفاخر، وجعل إزارها وكسوة بابها حريرا مطرزا بالذهب والفضة، (1:135) وفي عام 1223ه قال: حج سعود بالمسلمين حجته الخامسة وكان يدخل الحرم ويطوف بالبيت ويجلس فوق زمزم، وبذل في مكة كثيرا من الصدقات والعطاء وكسا الكعبة المشرفة بالقيلان الاسود، وجعل إزارها وكسوة بابها من الحرير المطرز بالذهب والفضة (1:136) وفي عام 1224ه قال: وفيها حج سعود حجته السادسة،و احتفل بالحج معه جميع من شملته مملكته من نواحي المسلمين، وكسا الكعبة المشرفة بالقيلان الاسود الفاخر، وجعل ازارها وكسوة الباب من الحرير الاحمر المطرز بالذهب والفضة, (1:141). وهكذا نرى ابن بشر يذكر عن الامام سعود في كل حجة اهتمامه بكسوة الكعبة، على نفس النمط الذي ذكر، في عدة مواضع في عام 1227ه وهو العام التاسع لحجته بالمسلمين، لكنه لم يذكر عن كيفية صنعها وجهده في ذلك. وقد ذكر احمد عبدالغفور عطار: ان الامام سعودا كان حافزه لكسوة الكعبة: ما علمه بما يصاحب الكسوة من بدع فأراد منع تكرارها فيما يأتي من الاعوام، فكتب الى السلطان سليم يطلب إليه منع قدوم المحمل المصري والمحمل الشامي، مصحوبين بالطبول والزمور لأن ذلك من البدع التي يجب منعها وهذا نصّ خطابه: أما بعد: فقد دخلت مكة في اليوم الرابع من محرم 1218ه، وأمّنت اهلها مع أرواحهم وامولهم بعدما هدمت ما هناك من أشياء وثنية وألغيت الضرائب، الا ما كان منها حكما وأثبت القاضي الذي وليته أنت طبقا للشرع، فعليك ان تمنع والي دمشق، ووالي القاهرة من المجيء بالمحمل والطبول والزمور الى هذا البلد المقدس، فإن ذلك ليس من الدين في شيء وعليك رحمة الله وبركاته, (صقر الجزيرة 1:184), وبدخول الامام سعود مكة مرة ثانية عام 1221ه امتنع مجيء الكسوة الى عام 1229ه، وخلال هذه المدة التي انقطعت الكسوة فيها من مصر كان الامام سعود الكبير يتولى كسوة الكعبة: من القز الأحمر، ثم استمر يكسوها بالديباج الاسود والقيلان الأسود، وجعل ازار الكسوة وستارة باب الكعبة من الحرير الطبيعي الاحمر المطرز بالذهب والفضة (الكعبة والكسوة للعطار 156) ولما دخل الملك عبدالعزيز رحمه الله مكةالمكرمة في عام 1343ه، لم ترسل مصر كسوة الكعبة المعتادة، ولم تخبر الملك عبدالعزيز بامتناعها عن ارسالها وأهلّ هلال الحجة 1343ه، ولم تصل الكسوة فوقع الملك عبدالعزيز في حيرة شديدة، فليس له كما يقول العطار من الوقت ما يكفي لصنع كسوة تليق بالكعبة، خلال بضعة ايام وهو لا يريد ان يبدأ حكمه للحجاز وخدمته للبيت العتيق، بتلفيق كسوة لا تليق ببيت الله، ووقع في حيرة لم يجد منها مخرجا، واجتمع بآل الشيبي وآل نائب الحرم، وكبار اهل مكة، وعرض عليهم امر الكسوة التي منعت مصر ارسالها، وطلب إليهم الرأي، فأخبره آل الشيبي وآل نائب الحرم، ان بأحد مستودعات المسجد الحرام كسوة كاملة سليمة صالحة، كانت قد اعدت للكعبة في عام 1342ه فكسيت بها الكعبة في اليوم المحدد العاشر من ذي الحجة 1343ه وشهد حجاج بيت الله الحرام، الكعبة المشرفة مكسوة كسوة فاخرة ودهش المصريون وحكومتهم من قدرة ابن سعود على صنع الكسوة واستنكروا تحكم السياسة في الكسوة (الكعبة والكسوة لأحمد عبدالغفور عطار 164 165). وقد أشار الشيخ محمد طاهر كردي في كتابه: التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، نقلا عن تاريخ الغازي: ان كسوة الكعبة سنة 1343ه كانت من صنع الاحساء بأمر من الملك عبدالعزيز (4:207)، ويقول احمد العطار: وقد رأى الملك عبدالعزيز بثاقب بصيرته بعدما عاين الحرج الذي فرّجه الله في كسوة الكعبة، ان سبب الأهواء السياسية يتحكم في كسوة الكعبة، ففكر في حل جذري لكسوة الكعبة، وخشي ان تستمر مصر في امتناعها فلا ترسل الكسوة في موعدها لمكة، وبينما هو يعدُّ العدة لانشاء مصنع الكسوة في موعدها بمكة علم في شعبان عام 1344ه ان مصر سترسل الكسوة، ومع هذا احتاط للأمر، ووكل ابنه فيصلا، ان يستعد لاحتمال المنع، لأن ما وصل إليه من علم لم يكن رسميا، ويجب ان يحسب حساب الأهواء السياسية,, ويجب أن تكون الكسوة السعودية خيرا من غيرها، وهذا غير مضمون الا بإعدد عدة كاملة,, وجاء موسم حج عام 1344ه ووصل المحمل المصري، يحمل الكسوة، ولكن صحبها جنود مصريون مسلّحون وضباط وقائد، ولم يرد الملك عبدالعزيز ان يحدث ازمة فسمح للقوة العسكرية ان تنزل، ولكنه توجس منها خيفة، وقد حدث ما توقعه الملك عبدالعزيز. ثم ذكر حادثة المحمل في منى بتفاصيلها التي اخمدها وعالجها ابنه الامير فيصل,, وكسيت الكعبة بالكسوة المصنوعة في مصر، ولم تعتذر الحكومة المصرية، وظنت الحكومة السعودية خيرا بحكومة مصر التي تظاهرت باستمرارها في إرسال الكسوة واطمأن الملك عبدالعزيز الى ذلك، وفوجىء في غرة ذي الحجة 1345ه ان مصر منعت الكسوة، ولم ترسلها لتحرج الملك عبدالعزيز أمام العالم الاسلامي، وحجاج بيت الله الحرام. وعالج الملك عبدالعزيز هذا الارتباك في وقت حرج وضيق، مع نائبه في الحجاز، ابنه الملك فيصل ووزير المالية عبدالله السليمان، وتم اجتماع بعمال نسج وخياطين، ومطرّزين وصاغة، واخبرهم الملك عبدالعزيز بما حدث من مصر، وبحرج الحكومة والبلاد، والأمة امام حجاج بيت الله الحرام، فوعدوه بأن الكسوة سيتم صنعها خلال ايام بفضل الله، ثم بفضل جلالته. وصنعوا كسوة فاخرة من الجوخ الأسود، وجعلوا بطانته من (القلع) المتين، وعملوا حزامها وطرّزوه بأسلاك الفضة، المطلية بالذهب، وعملوا ستارة باب الكعبة وهي البرقع بعد تطريزه بالحرير الطبيعي واسلاك الفضة والذهب. وقد انتهوا من صنع الكسوة خلال سبعة ايام بعد ان واصلوا الليل بالنهار، وعرضوا الكسوة على الملك عبدالعزيز فسرّ بذلك وكافأ الصانعين مكافأة مجزية، وما كاد يأتي اليوم العاشر من ذي الحجة، الا والكعبة المشرفة ترتدي كسوتها، وقد كتب على الكسوة: صنعت بمكةالمكرمة، بأمر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود وقد تحدث بعض كبار حجاج مصر الى الملك عبدالعزيز، والى نائبه الامير فيصل والى وزير المالية مبدين أسفهم لما حدث، واعجابهم من الكسوة التي صنعت في بضعة ايام بتوفيق الله، وأسخطهم خلط السياسة بكسوة الكعبة (انظر في هذا ما قاله احمد عبدالغفور عطار في كتابه الكعبة والكسوة ص 165 169). وفي كتيّب أصدرته الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف باسم: مصنع كسوة الكعبة المشرفة عام 1419ه ورد عن كسوة الكعبة المشرفة في العهد السعودي الزاهر هذا القول: لما كان جلالة الملك المغفور له عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مهتما برعاية الحرمين الشريفين أمر جلالته في مستهل عام 1346ه في مطلع شهر محرم بإنشاء دار خاصة لعمل كسوة الكعبة المعظمة، في مكةالمكرمة وتم توفير كل ما يحتاج إليه العمل، وافتتح مصنع الكسوة في منتصف العام نفسه، وتم انتاج اول كسوة للكعبة المشرفة في أم القرى، ليصبح الشرف العظيم للمملكة العربية السعودية، واستمر المصنع حتى عام 1357ه ينتج ثوب الكعبة المشرفة، ورغبة في اتقان هذا العمل واظهاره بالصورة التي تتلاءم مع قدسية الكعبة المشرفة صدر أمر جلالة الملك المغفور له الملك فيصل رحمه الله في عام 1382ه بتجديد مصنع الكسوة وفي عام 1397ه تم افتتاح المبنى الجديد بأم الجود في مكةالمكرمة وزوّد بآلات حديثة لتحضير النسيج، واحدث قسم النسيج الآلي، مع الابقاء على اسلوب الانتاج اليدوي، لما له من قيمة فنية عالية، وما زال المصنع يواكب عجلة التطوّر ويحافظ على التراث اليدوي العريق لينتج كسوة الكعبة في أبهى صورها (ص18). وجاء في هذا الكتاب وصف للكسوة الي تصنع بهذا المصنع وما يكتب عليها من آيات كريمات، وجاءت هذه العبارة تحت الحزام وبلون مغاير للون الكسوة صنعت هذه الكسوة في مكةالمكرمة وأهداها الى الكعبة المشرفة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود تقبل الله منه (ص23). هذا الوصف المجمل تحدث عنه أحمد عبدالغفور عطار مفصلا في 31 صفحة جاء فيه: إن اول مصنع اختير له مكان في أجياد امام وزارة المالية مساحته 1500م 2 وشيِّد المصنع والبناء في رجب 1346ه وطلبت المواد والآلات والفنيين من الهند، وعيِّن عبدالرحمن مظهر رئيس مطوفي حجاج الهند لمصنع الكسوة الذي حوى 60 عاملا هنديا مع بضعة عشر من العمال السعوديين، وانتج المصنع اول كسوة سعودية في أواخر القعدة عام 1346ه سُرَّ بهاالملك عبدالعزيز لدقة الصنع وحسن نسجها فكافأ الملك العمال مكافأة سخية فوق أجورهم,, وفي عام 1352ه غادر العمال الهنود البلاد بعد ان تسلم المصنع عمال سعوديون 100% انتجوا اول كسوة بأيديهم في هذا العام. وتحدث عن تجديد المصنع في عام 1381ه في عهد الملك سعود رحمه الله الذي قام بالدور كاملا وضمت الكسوة الى وزارة الحج والاوقاف، وكان العاملون بالمصنع من السعوديين. ولم ينس دور الملك فيصل في الاهتمام بكسوة الكعبة من اول أمرها ثم متابعة ايجاد اول مصنع في عهد الملك عبدالعزيز، وتحديث وتجديد المصنع بعد عام 1381ه، واختيار موقع ملائم اكثر من السابق، وتجديد العمل بمهارة الايدي السعودية وتشجيعها وتهيئة الفرص المعينة على تحسين العمل حتى اشتغل المصنع الحديث وصار ينتج الكسوة من عام 1383ه الى عام 1394ه حيث انتقل عماله الى المصنع الحديث قبل إنجاز مبانيه في عهد الملك خالد عام 1395ه الذي امر بصنع باب الكعبة من الذهب، وأنتج المصنع كسوة الكعبة الجديدة في عهد الملك خالد لعام 1395ه وعام 1396ه وما بعدهما. وفي يوم السبت السابع من ربيع الآخر عام 1397ه افتتح مصنع الكسوة بمكةالمكرمة تحت رعاية صاحب السمو الملكي الامير فهد بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب جلالة الملك خالد الملك فهد خادم الحرمين الشريفين بآلاته الحديثة وتجهيزاته الفنية,, فكان مفخرة من مفاخر الدولة السعودية التي حباها الله بخدمة الحرمين الشريفين فبذلوا الجهد والنصح في اداء حق الخدمة واراحة ضيوف الرحمن، وتيسير اعمالهم في الحج والعمرة والزيارة، وما زالوا يواصلون العمل حثيثاً، وبجهد لا يكلُّ ولا يملُّ حيث اوجدت هيئة عليا للحج ترعى الاعمال وتضع أسس المشاريع، وتتفقد الاحتياجات، زادهم الله توفيقا وأعانهم على كل خير. مكانة مكة أورد السيوطي في تفسيره أحاديث اسرائيلية كثيرة عن مكانة مكة منها قوله عن وهب بن منبه قال: لما تاب الله على آدم أمره أن يسير الى مكة فطوى له المفاوز والارض فصار كل مفازة يمرُّ بها خطوة، وقبض له ما كان فيها منه مخاطر او بحر فجعله له خطوة، فلم يضع قدمه في شيء من الارض الا صار عمرانا وبركة، حتى انتهى الى مكة، فكان قبل ذلك قد اشتد بكاؤه وحزنه، لما كان به من عظم المصيبة، حتى أن كانت الملائكة لتبكي لبكائه، وتحزن لحزنه، فعزّاه الله، بخيمة من خيام الجنة، وضعها له في مكة بموضع الكعبة، قبل ان تكون الكعبة، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة، فيها ثلاثة قناديل من ذهب، فيها نور يلتهب من نور الجنة، ونزل معها يومئذٍ الركن، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء من ربض,,, الجنة وكان كرسيا لآدم يجلس عليه، فلما صار آدم بمكة حرسه الله، وحرس له تلك الخيمة بالملائكة، كانوا يحرسونها ويذودون عنها سكان الارض، وساكنها يومئذٍ الجن والشياطين، ولا ينبغي لهم ان ينظروا الى شيء من الجنة، لأنه من نظر الى شيء من الجنة وجبت له. والارض يومئذٍ طاهرة نقية طيبة لم تنجس، ولم يسفك فيها الدم، ولم يعمل فيها بالخطايا، فلذلك جعلها الله مسكن الملائكة، وجعلهم فيها، كما كانوا في السماء، يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وقد كان وقوفهم على اعلام الحرم صفا واحدا، متدبرين بالحرم كله، من خلفهم، والحرم كله من أمامهم، ولا يجوزهم جنّي ولا شيطان من اجل مقام الملائكة، حرم الحرم حتّى اليوم، ووضعت اعلامه، حيث كان مقام الملائكة وحرّم الله على حواء دخول الحرم والنظر الى خيمة آدم من أجل خطيئتها التي أخطأت في الجنة, فلم تنظر إلى شيء من ذلك حتى قبضت، وإن آدم اذا أرادها ليلة ليلمّ بها للولد، خرج من الحرم كله حتى يلقاها,, فلم تزل خيمة آدم مكانها حتى قبض الله آدم ورفعها الله إليه، وبنى بنو آدم بها من بعدها، مكانها بيتا بالطين والحجارة، لم يزل معمورا يعمرونه ومن بعدهم، حتى كان زمن نوح، فنسفه الغرق، وخفي مكانه، فلما بعث الله إبراهيم خليله، طلب الاساس الاول، الذي وضع بنو آدم في موضع الجنة. فلم يزل يحفر حتى وصل الى القواعد التي وضع بنو آدم في موضع الخيمة، فلما وصل إليها ظلل الله له مكان البيت بغمامة، فكانت حفاف البيت الاول، فلم تزل راكدة على حفافه تظلل إبراهيم وتهديه مكان القواعد حتى رفع القواعد قامة، ثم انكشفت الغمامة، فذلك قول الله عز وجل: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت (الحج 26) للغمامة التي ركدت على الحفاف لتهديه مكان القواعد فلم يزل يحمد الله مُذ رفعه الله معمورا (الدر المنثور 1:312311).