الشجاعة المقصودة في هذا المقال هي مواجهة العاقل لضد مخالف له. فهناك المواجهة الجسدية والفكرية والعلمية. وقد اشتهر العرب في الشجاعة الجسدية. فما أرخص نفوسهم يبذلونها في مواجهة المخاطر ضد إنسان أو حيوان أو جماد. وهم كذلك في الحروب والنزاعات، إلا أن الحروب والنزاعات هي في أصلها مواجهات فكرية، فهي لا تنشأ إلا بسبب فكر يتبناه المتقاتلون والمتنازعون -كالوطنية والطائفية والأيديولوجيات وغير ذلك-. والعرب لا تنقصهم الشجاعة الفكرية، على هذا المعنى. فكثير هم من العرب من يخاطر بنفسه في نشر فكر محظور. وهذه الشجاعة هي من الشجاعة الفكرية لا الجسدية، فقد يكون هذا الشجاع الفكري جبانا ترتعد فرائصه أمام فأر أو هر. أما الشجاعة العلمية، فهي شجاعة نادرة عند العرب. فالشجاعة العلمية هي أن يواجه الإنسان مجتمعه العام أو مجتمعه العلمي بحقائق أو نظريات علمية مخالفة للمألوف بينهم أو خارج المتعارف عليه في الوسط العلمي المختص به. فجميع الثورات العلمية أصلها فكرة مخالفة للمألوف، (والثورات العلمية هي سبب كثير من التغيرات الكبرى في الثقافات الاجتماعية والسياسية). فكم من عالم بانت له طرف حقيقة علمية في أحد أبحاثة أو بان لموظف أو مسئول خطأ طريقة متعارف على اتباعها في منظمته. فإما أن يخشى من نفسه فلا يثق بعلمها أو يخاف من مجتمعه العلمي أو الوظيفي أو العام، فيحمد السلامة فيؤثر الصمت والسكينة. ودليل كثرة شجعان الجسد والفكر في العالم العربي وقلة شجعان العلم هو ما نراه من خلود كثير من المسئولين العرب إلى السكنية عند توليهم مهامهم. وقد يكونون من الذين خاضوا الثورات أو نشروا فكرها، ولكنهم يجبنون عن تغيير علمي في وزاراتهم. وذاك لأن التغيير العلمي سيتبعه حتما تغيير في سياسة وثقافة المنظمة. فهو إذا تغيير لغالب المألوف في المنظمة وهذا ما تقصر شجاعة العرب دونه، وهو الشجاعة العلمية. فالشجاعة العلمية هي شجاعة العالم -أمسئولاً كان أو باحثاً- في ثقته في منطقه وعلمه وعدم خوفه من عواصف الرفض التي سيثيرها عليه أنداده حسدا وغيرة أو جهلا أو التحزب ضده من أجل كسب مصالح بموافقة من يتحزب معهم. وهذه الشجاعة العلمية هي التي تميز بها كثير من الأفراد في العالم المتطور، فغلبوا الناس بها. فكم من مطاحنات علمية شرسة -وأنا أقول علمية منطقية لا غوغائية- في البرلمانات والوزارات والجامعات والمعامل والشركات تبدأ بتسفيه شجعان العلم وآرائهم ابتداء بالإهمال والسخرية ثم بالتهديد والمكائد أحيانا والهجر الوظيفي أو الاجتماعي أحيانا أخرى، ويقطع عنهم الدعم المالي ويُبعدون عن مراكز الأبحاث أو المسئولية بتهمة أنهم مُخرفين أسطوريين أو مُنظرين حالمين. شجاعة العلم هذه هي التي حققت للغرب تطوره العلمي في الإنتاج الخدمي والسلعي، فأغناه هذا التطور العلمي عن هدر دماء أبنائه رخيصة في شجاعة جسدية أو فكرية. القرن المنصرم كان قرناً مصيرياً، وانقضى القرن وقد زالت أيديولوجيات عظمى، وارتفعت أمم من الحضيض إلى القمة. واختفت علوم بكاملها وظهرت أخرى جديدة وتغير جذريا ما بقى من العلوم القديمة، فلم يبق منها إلا اسمها. نعم لقد كان قرنا مصيريا، وقد أدرك العرب منذ قرن أنهم «على أعتاب مرحلة مصيرية». فتبنى شجعان الفكر من العرب أيديولوجيات مختلفة، مستوردة أو محلية، فأتت ثمرة شجاعتهم الفكرية أُكلها بأن سخروا شجعان الأجسام في حروب ونزاعات زجوهم فيها يطحن بعضهم بعضا. فهم - بغياب الشجاعة العلمية عنهم- ما زالوا يراوحون مكانهم كما كانوا منذ قرن وأكثر يرددون العبارة الهرمة «نحن على أعتاب مرحلة مصيرية». في القديم كانت الشجاعة الجسدية هي العامل الأهم في عزة حياة الإنسان، ثم أُضيف إليها الشجاعة الفكرية مع انتشار القوميات والأيدلوجيات. أما اليوم فهو عصر الشجاعة العلمية، فشُجعانها هم أبطال أممهم. والمسكوت عنه في الشجاعة هو أن كل من لا منطق له لا عقل له وكل من لا عقل له سيعوض نقص عقله في شجاعة من نوع أو آخر. فإما تراه شجاعاً في زج نفسه في المغامرات بأنواعها. أو يتمشجع بإظهار شجاعته في ظلم الآخرين والتسلط عليهم بدعوى الانتصار لتقاليد بالية، أو شجاعة في الخروج عن النظام الأمني في سرقة أو إرهاب أو اختلاس، أو شجاعة في خسائس الأمور كمطاردة النسوة والكذب ونحوها، فغياب العقل يخلق فراغا في النفس البشرية لا بد من تعبئته. [email protected] تويتر@hamzaalsalem