كلنا تابعنا عن كثب انتفاضة الشعب المصري والتي انتهت بسقوط النظام الحاكم. ولا أعتقد أني بحاجة إلى مزيد من القول حول هذه الانتفاضة التي تناولها الإعلام بكل أصنافه وتوجهاته. ولكني أود أن أتحدث عن اللحظة الفارقة التي تشكلها انتفاضة المصريين؛ وهي مما يمكن تسميته لحظة السقوط المدوي لكثير من الأوهام سواء أكانت أفكارا أو أشخاصا أو رموزا. يكفي أن نذكر على المستوى الفكري أن الأيديولوجيا بعامة تتعرض عربيا للسقوط النهائي أو شبه النهائي؛ فالأحزاب ذات الطابع الأيديولوجي كالإخوان والقوميين وغيرهم من الأحزاب المعارضة تشعر اليوم بعدم الحاجة إلى وجودها، خصوصا أن مبرر وجودها آنذاك كان سيطرة الحزب الحاكم على الحياة السياسية والعامة مما جعل الأنظار ترنو إليهم والقلوب تهفو لهم لكي يخلصوا الشعب من المظالم التي تعرض لها. لقد راهن الشعب المصري على الإخوان والأحزاب المعارضة الأخرى ولكنه كان رهانا خاسرا، فمن الواضح أن المعارضة لا تختلف بشكل واضح عن الحزب الحاكم، وهذه حالة عربية فريدة؛ حيث تكون المعارضة امتدادا للسلطة الحاكمة، تشبهها في كل شيء مع استثناء وحيد وهو أنها خارج السلطة. لقد خسرت المعارضة الرهان لأن الشعب الآن أصبح أكثر قوة وثقة بالنفس وإحساسا بالفخر، فهم من أسقط النظام وليس الإخوان أو الوفد أو كفاية أو الناصريين؛ ولذا فلا مجال للمزايدة على فقر وجوع وغضب الشعب. وقد لاحظت هذه الأحزاب تلك الحالة بشيء من الخجل؛ فتوارى من توارى، وانضوى تحت ظل الشعب من انضوى. أجل توارى الوفد مثلا، وهو من أعرق الأحزاب في مصر، وانضوى الإخوان للشعب فصاروا تابعين لهم لا قادة. أليس هذا مسوغا لكي نقول إن الأحزاب الأيديولوجية وبالتالي الأيديولوجيا بعامة قد سقطت بصورة مدوية اليوم؟! أجل، إنها الأيديولوجيا المصرية التي سقطت، فما شأننا في بقية بلدان العالم العربي؟ برأيي أن أغلب، إن لم نقل كل الأيديولوجيات العربية هي امتداد لأيديولوجيات مصرية منذ مطلع القرن العشرين حتى السبعينيات، وهي الفترة التي توقفت فيها مصر عن الإبداع والعطاء. لقد كان منطق الأحزاب الأيديولوجية العربية يلح على الأخذ بيد الشعب وانتشاله من حضيض الفقر والمرض، ولكن ها هو ذا الشعب يأخذ نفسه بنفسه ويلم شعثه وينتصر لذاته، فلا فضل لأحد عليه إذن. هكذا سيتم حشر الأحزاب الأيديولوجية المعارضة في زاوية حرجة، وما عليها لكي تتفادى الحرج سوى التحول إلى حزب سياسي عادي لا يتكئ إلى قاعدة أيديولوجية معقدة وربما مخالفة للرأي العام ذاته. وهو ما سينوي الإخوان المسلمون فعله. من المحقق أن أعرق ثلاث أيديولوجيات في العالم العربي هي الأيديولوجية الدينية والتي يمثلها اليوم الإخوان، والأيديولوجية القومية العروبية ويمثلها الناصريون والبعثيون والقوميون، والأيديولوجيا الليبرالية ويمثلها في مصر، تقريبا، حزب الوفد. ومع انهيار القومية العربية بغزو العراق للكويت، وتدهور الفكر الليبرالي منذ عقود طويلة، نقول إن الإخوان اليوم هم أكبر حزب عربي أيديولوجي. وها هو ذا يسقط مع ثورة شعب مصر؛ وهو سقوط له كحزب أيديولوجي لا سياسي, ولذا كان من ذكاء أنصاره أن يتحول إلى حزب سياسي خالص؛ سواء باسم الإخوان صراحة أو بأي اسم آخر. اليوم لم يعد الحديث ممكنا في مصر سوى عن الشعب والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني والعدالة، وهذه المطالب بوصفها شعارات رفعتها الأحزاب الليبرالية العربية قديما لا يعني أنها تدين لهذه الأحزاب في شيء، وأقصد أنه ليس لتلك الأحزاب دور في ثورة الشعب، بل كان الجوع والغضب و«تونس”»!. هذا ما يختص بالأفكار، أما بخصوص الحياة الاجتماعية وما تكتظ به من فن وأدب وإعلام ورياضة وغيرها قد تعرضت لهزة عنيفة ومفاجئة جعلت ما حدث في مصر أشبه بالقصص الدرامية المثيرة والتي لا تكاد تصدق. رأينا أناسا يصعدون للعلياء بعدما كانوا شيئا غير مذكور، وآخرين يسقطون بصورة مفزعة أو مضحكة. لقد شاهدنا مباشرة مسرحا مفتوحا وتطورا دراماتيكيا عجيبا، عرضت فيه كل القصص والحكايات التي سمعناها؛ الشهامة والكرم والشجاعة والنفاق والمكر والضياع. كل هذه «الثيمات» السردية المألوفة عرضت أمامنا في مسرح مباشر ومفتوح، كمسرح بارتولد بريشت؛ حيث يقوم الجمهور بالأداء والفرجة معا!، لقد ضحكنا إلى حد البكاء، وبكينا إلى حد الضحك، وقد صدق الشاعر: «وكم ذا بمصر من المضحكات * ولكنه ضحك كالبكا»، وهجاء الشاعر بكل حال ينطبق على أولئك الأشخاص الذين تحدثنا عنهم، والذين سقطوا بصورة مضحكة حينا ومبكية حينا. يبقى أنه من الضروري جدا أن يحافظ المصريون على طبيعتهم المسالمة، فإن الانجراف وراء الانتقام أو تصفية الحسابات مع الشخصيات العامة من ساسة أو فنانين أو أدباء أو إعلاميين سيؤدي إلى موت الثورة وفشلها. بل الأدهى أنه سوف يجعل السلم الاجتماعي مهددا. ولنا في ما حدث في جنوب أفريقيا عبرة وعظة؛ فرغم الظلم الشنيع الذي تعرض له الأفارقة السود من قبل البيض، إلا أن إنشاء لجنة المصالحة الوطنية والاعتراف بالذنب والعفو بعد انهيار النظام العنصري حفظت البلد من حرب أهلية مدمرة. وعربيا فقد حاكت المغرب هذه التجربة العظيمة فيما سمي «لجنة الإنصاف والحقيقة». وأنا هنا لا أخبر المصريين بما عليهم أن يفعلوه، فهم أعلم مني ومن كل أحد، ولكني أرسم صورة مأساوية لما سيحدث في مصر أو غيرها لو كان الانتقام وتصفية الحسابات هي الخطوة التالية أو ما بعد التالية. إن مصر أولى بهذه اللجان السلمية، فكما ذكرت فليس هناك شعب مسالم كالشعب المصري، وهذه حقيقة يؤيدها التاريخ؛ فلم يذكر تاريخيا أن المصريين خرجوا من بلادهم غزاة ولا رحلا، بل تشبثوا بها وقاتلوا دونها، وكان لوادي النيل العظيم دور كبير في خلق هذه الشخصية المسالمة والمتحضرة والمحبة للأمن والهدوء، وقبل هذا وذاك المحبة لمصر. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة