كتب - صالح بن عبدالكريم المرزوقي: المحاورة فنّ من الفنون الجميلة في الموروث الشعبي وقد ظهر هذا الفنّ في بداياته في منطقة الحجاز منذ زمن بعيد خصوصا في منطقتي مكّة والطائف وقد برز العديد من الشعراء ممن أشعلوا قناديل هذا الفن وكان لهم بصمة على مدى العقود الماضية من أمثال بديوي الوقداني ودخيل الله الزايدي وعبد الله الصليمي ليأتي من بعدهم مريسي الحارثي وعبادل المالكي وحاسن المطرفي والجبرتي وابن تويم وغيرهم من الأجيال المتعاقبة الذين أثروا الساحة الشعبية بمحاوراتهم الجميلة ومن ثمّ سلموا الراية لمن بعدهم ممن واصلوا المسيرة ولعلّ ما يميّز أولئك الشعراء من خلال محاوراتهم الغموض في المعنى وذلك من خلال إيحاءات فنيّة متبادلة بقالب شعري بديع يطرب له الجمهور. ولعلّ الموهبة هي الأساس في هذا الفنّ ويأتي بعد ذلك سرعة البديهة والحضور الذهني والثقافة الشعبية بالإضافة إلى الممارسة. والمحاورة مثلها مثل أي منافسة تتم بين خصمين ولعل حدّة المنافسة وقوّة المتنافسين هي الجاذب والمحرك الرئيس للجمهور فكلما حمي الوطيس وارتفعت وتيرة المنافسة زاد حماس الحضور وتفاعلهم. وهنا لابد أن يكون للمحاورة مغزى وهدف بحيث يتمّ طرح الموضوع بلغة رمزية لا يستطيع حلها سوى الخصمين والراسخين في هذا الفنّ وهذا ما يجعل بعض المحاورات باقية في أذهان البعض من محبيه ومتذوقيه ولو استعرضنا بعضا من تلك المحاورات كنموذج سنجد فيها ما يعطي انطباعا عن هذا الفن وما يكتنفه من غموض مع سلاسة في الطرح وسرعة في التقاط المعنى مما يضفي على المحاورة طابعا جميلا ومميّزا. ففي محاورة قديمة جرت في مكّة المكرمة بين الشاعرين حاسن المطرفي ومستور الحارثي ولهذه المحاوة قصّة وهي أن مستور بعد أن طلقّ زوجته تزوّجت برجل آخر وبعد أشهر أنجبت مولودا فكان هناك من يشكّ بأن المولود ربما يكون لمستور مما دعا حاسن بأن يقول له في تلك المحاورة: انا اوحيت يا مستور يمّك دعيّة هني من دري هي صدق ولا ظليمة يقولون يوم اطلقت حبل المطيّة عليها شدادٍ روّحت به غنيمة فأجابه مستور بعد ان التقط المعنى ببراعة: هذا العلم يا حاسن رموا به عليّه رموا به عليّ اهل الحسد والنميمة يقولون فيّه علم ماهوب فيّه وانا من رجالِ له كرامة وشيمة ولكن حاسن فتح له بابا آخر وهو أنه ربما لم يكن يعلم عن هذا الأمر حينما قال: انا اقيّس انه ما معك مخبرية و بعض الركايب بالطبايع غشيمة يقولون مالت قوم ماهي صريّة بدا فيها ماريّة واظنه قديمة ولكن مستور أجابه بالردّ القاطع قائلا: لك الله لو جاها السبب من يديّه لاجوّد رسنها لين تصبح سليمة ولكنها راحت عريّة بريّه ولاني من اللي يظلمون اليتيمة ولقد تعمدت إبدال الكلمة الأخيرة من الشطر الأخير بكلمة مرادفة مراعاة للذوق العام. هذا نموذج بديع ومختصر من نماذج المحاورة المقننة والنماذج كثيرة ومتنوّعة وللشعراء المميزين طرق مختلفة من حيث النهج والأسلوب فمنهم من لا يحب الخروج عن النصّ أثناء المحاورة ويلتزم بهذا النهج قدر الإمكان ولكنه في نفس الوقت لا يقبل الخطأ من الخصم وربما يغيّر من أسلوبه وإستراتيجيته إذا اضطرته الظروف إلى ذلك وهذا ما جسدّه الشاعران علي الماجد وصقر النصافي في إحدى محاوراتهما التي جرت في الكويت حينما قال أبو ماجد: مانيب احب الميال ولا بوجدي بخيل أماامهل الخصم واطلب منه الامهاليه لما نحوّل على الدرب القصاد تحويل يصير مدخال خصمي مثل مدخاليه حيث ردّ عليه النصافي بنفس المعنى قائلا: امشي مع الخصم مثل السيل جوف المسيل اضرب دروب السهل عن درب الاجباليه ولا حصل عيلة تاتي بليّا دليل مافوّته وانطح العايل بعيّاليه وهكذا يكون الشاعر الواثق من نفسه وقدراته بحيث لا يتعمّد الخطأ ولكنه في نفس الوقت لا يترك الفرصة للخصم للنيل منه. ومع أن أبا ماجد لم يكن على قناعة بهذا الردّ إلا أنه مرّرها في تلك المحاورة وهذا ما يتضّح من خلال المحاورة الأخرى التي جرت بينهما حينما أثار أبو ماجد موضوعا يرى فيه موقفا ضعيفا للنصافي مع أحد خصومه الذي هاجمه في محاورة سابقة مما حدا بالنصافي إلى الانسحاب من الملعبة آنذاك احتجاجا على أسلوب خصمه وهذا ما دعى أبو ماجد أن يقول له من خلال تلك المحاورة: السفر ما كوّن الا للشبيبة و التخفّر للبنات وللرخومي لكن ابنشدك عن دعوى عجيبة يوم تنشيب البنايق للكمومي حيث فهم النصافي ما يقصده أبو ماجد حينما أجاب قائلا: أفتهم معناك معناتٍ غريبة خابر انك من فهيمين القرومي لا تنشدني عن اللي ما اشتقي به عنه دوم الناس تكفيني هدومي ولكن أبا ماجد أراد أن يوّضح له أنه لم يكن شامتا بقدر استيائه من الموقف الضعيف للنصافي حيث قال: والله اني ما هزبتك به هزيبه لكن انه غامضن لطم الخشومي و انت من ناسٍ يحكمون الضريبه ما هقيت انك مع المفطر تصومي فما كان من النصافي إلا أن قال: ما يفوتن كل معنى فيه ريبه افهم الحجّات مع كل الخصومي خابرٍ دربي سماح واقتدي به والوعر مابيه من لطم اللكومي ولكن أبا ماجد المعروف بصلابته وهيبته في ساحة المحاورة لم يقنعه هذا الردّ خصوصا وأنه يدرك أن قدرات النصافي تفوق قدرات خصمه الذي هاجمه حيث قال: كيف أجل حوّلت من راس الجذيبة يوم خصمك في حجا الضلع متحومي لا تحوّل عن مراقيك الصعيبة ما ذكر مثلك تهيبه الدمومي ويبدو أن النصافي رغب في إقفال الموضوع حينما قال: يا جماعة صارت الدعوى نشيبة كن صاحبنا يبي يشوي لحومي الرفيق الى تغيّر من حليبه ما جزاه إلا نعدّه شيخ قومي والنماذج من المحاورات التي يكون فيها بحث بين الطرفين كثيرة فهذا الشاعر أبو ماجد يقول في محاورة له مع أحمد الناصر: يذكرون البارح انك شاريٍ دراعة واعسى شلاّنها تضفي على السروالي رشحن يا ولد ناصر بالخبر هالساعة و انت لك مالك وانا مستغني في مالي فقال له أحمد: انت لا تجعل ظنونك كلها بتاعة لقني بالك وابشرح لك سراير حالي الجمل خانه زمانه واختلف مرباعه عقب ما هو شيخ روحه له بربعٍ خالي فقال أبو ماجد: كان وهمتن فانا باقول سمع وطاعة إجزم اني ما دريت بعثرة الجمّالي وش جرى لك يوم جوك اهل الحمى فزاعة ما مكنك الا تطبّح من رفيع وعالي فقال أحمد: غصت في غبّة بحر واظهرت حصّ القاعة و السعادة عن شواذيب البحر تبرا لي ما جرى خلّه ومن يدخل عرف مطلاعه ما حصل مكسب لا شكّ ادركت راس المالي في الحلقة القادمة نستكمل هذا الموضوع