عجيب هو الدماغ البشري, استراتيجيته الأولى «البقاء»، وعلى هذا الأساس يرتب أولوياته؛ لتنطلق حافلة وجوده دون معوقات. «الألم» هو أحد أهم المعوقات إن لم يكن أهمها على الإطلاق. والأعجب من مفرزات الدماغ وابتكاراته لطرق المحافظة على البقاء طرقُه الغريبة في التخلص من الألم. البعض لديه البصيرة الكافية لأن يسلك مسالك واضحة وصائبة في هذا الغرض، والبعض لا تسعفه بصيرته ولا ذكاؤه!.. والسؤال البدهي الآن: ما هو الألم؟ هل يمكن قياسه؟ ما هي مسبباته؟ لن أدرج تعريفات تم الاتفاق عليها علمياً؛ إنني هنا فقط أتأمل وأسجل تأملاتي. لو فكرنا بكل أفعال البشر لوجدنا أنها مجرد أطياف للهروب من الألم، بدءاً بالخيرات وانتهاءً بالجرائر.. ويمكنك أن تنطلق الآن بخيالك، وتفكِّر بكل الأمور اليومية التي نمارسها بإدراك أو دون إدراك.. أذكر أن والدتي مثلاً كانت تؤثث أحلامها بالانتصارات عندما تتعرض للإساءة من إحداهن، حتى الحلم قد نصممه - دون إدراك - للتخلص من الانكسار والآلام. إذن فالألم عائق أساسيّ لمشروع البقاء, وهو الشعور بأنك مغلول اليد ومُقيّد عن الركض في مضمار البقاء. لا يوجد مسبار إلكتروني لقياس الألم، لكننا نستطيع أن نتنبأ بكميته من خلال ردود الأفعال، وقديماً قالوا: «الصراخ بقدر الألم». ليست الصرخة بمعني الصوت العالي، إنما هي الأفعال الهوجاء المتخبطة والمتهورة. أما أسبابه فهي نسبية؛ فما يسبب لي الألم قد لا يسببه لجارتي بالمعدل نفسه. كل ما يهزّ وضع السكينة لدينا هو مؤلم. وكما أن أسبابه نسبيّة فإن بواعث السكينة تختلف من شخص إلى آخر. وكل ذلك عائد لنوعية الفرد ودواخله وجوهر أفكاره.. الخبر المحزن هنا أن هناك من يبني سكينته على قلق الآخر؛ لأنه خائف.. خائف من الاضمحلال، والفناء? وهذا ما يعيدنا ثانية لغريزة البقاء?.. النجاح ما هو إلا صورة للخوف من ألم الفشل، السفر هروب من ألم الروتين والملل والغفلة، التعلّم هو انعكاس لألم الجهل, حتى الغذاء يمكنه أن يكون منفذاً لألم الجوع! تلك إحدى الطرق السويّة لمكافحة الألم, لكن ليس لدى الجميع تلك الطاقة الإيجابية لسلوك الخير, فالسرقة والخيانة والهجران والغدر والكذب وغيرها صور سلبية للفرار من قبضة الألم. الخادمة الإندونيسية «كارني» ظهرت في تسجيل فيديو في برنامج «الثامنة مع داوود» لتضع جواباً مثيراً للدهشة عن سؤال: لماذا قتلتِ «تالا»؟ «الألم» هذا مختصر جوابها. آلمها الخوف من المجهول, من رسائل SMS على جوالها تحثها على القتل، وتحرضها على قتل الطفلة. بعدها بأيام معدودة انتشر خبر الخادمة الإثيوبية «إكرام» التي أنقذت أبناء كفيلها بعد أن أبعدتهم عن سيارة قفزت على الرصيف؛ لتترك جسدها للتبضيع والقتل. ماتت إكرام متأثرة بجراحها, ولولا ذلك لتسنت لنا فرصة سؤالها: لماذا أنقذتِ الأطفال؟ وسيأتي جوابها: «الألم». كان ضغط المسؤولية مؤلماً, رؤية موت الأطفال مؤلم! «إكرام» و»كارني» كلٌّ منهما اختارت طريقتها الخاصة للتخلص من الألم, إحداهما اختارت القتل, والأخرى اختارت الإنقاذ. السلبية أو الإيجابية, الخير أو الشر؟ وأنا وأنت.. هل اخترنا طرقنا للخلاص من الألم؟ [email protected]