جميل أن يبقى لفلسطين في قلوب الشباب تحديداً مكانة، ونبض... وأن يقرأوا تاريخها، ويتعرفوا قضيتها بوعي فيشعروا بها فيتناقشوا.., فتتفتح لهم جروحها، فيئنوا بها..كما تئن هي في أسرها.... كما هو جميل أن يتابعوا في معمعة ما حولهم أحداثها مع محتلها، فتستيظ قضيتها في صدورهم.. وفي أقل ما يُقدمونه لها أنهم يتبادلون الأنين معها, والدعاء لها، والسخط على إسرائيل.. فأشد ما يُقلق أن تجهل الأجيال الحاضرة قضية فلسطين، وأن تنشأ أجيال قادمة لا تحس بها، فتموت قضيتها مع الزمن.. لكنها -ولله الحمد- يقظة في القلوب، راكضة في العروق، غصة في الحلوق.. مع ما اعترى قضيتها من الفتور في المجتمع العربي بشكل فاعل، وحمية تنفيذية.. إذ فلسطين التي كانت أول محاور جداول الرأي والموقف في جامعة الدول العربية، انطوى أو يكاد ملفها بفاعليته القوبة, وأصبحت بعد يأس من ضعف، مجرد مروحة في أيدٍ.., يهشون بها على خيبات عريضة.. فالعرب المسلمون ركنوها في ركن من زوايا الذاكرة، أو هكذا يبدو.., تركوها في خانة منزوية في ملفات القضايا، لا يخرجونها إلا متى أرادوا أن يحفظوا قليلاً من ماء الانتماء, ودماء الاستحياء.. بعد أن كانت مفصلاً لأي موقف، وقراراً لأي اعتبار.. لأن قوة كلمتهم، وتوحد صفهم قد داخلتهما الأغراض.., ويدٌ واحدة واقعاً لا تصفق,.. ربما الزمن الذي مرَّ بهذه الفلسطين أكثر من نصف قرن، كبر فيه الصغار، ومات الكبار, واندثر الغبار.. لم تطلق فيه من إسارها،.. هذا الزمن ربما له دور..مع أنها فلسطين بما, وبمن فيها، شاب الصغير وهرم الكبير, وفني الأول، والأخير, بقيت تعاني جروحها، وكسورها، وتقوى على طعونها, وأنقاضها, ودامس ليلها، وعجاج نهارها.. تدفن أرواحها, وتحمل أعضاءها,، وتقوى على عرجها، وتطبِّب مرضها,، وتنطوي على أودها، وتضفر جدائل خيباتها، وحدها.. وحدها إلا من طارق على باب خلفي، أو نافذة عتيقة، أو جرح للتو تعالى صوتها بألمه, وفجيعتها فيه...فتتعالى معها أصداء ما تلبث أن تخفت..!! فلسطين الحزينة السليبة لم تعد الأسيرة الأثيرة عند الجميع.. فأصبحت كالزوجة المكروهة داخل سوار ضيق، بين كفي، وفكي زوج غاشم، يكبدها ليل نهار ضرباته القاصمة، وكرهه الباذخ، وغضبه الجم، وهي لا تملك حيلة.. لا ينقذها منه جار, ولا أب, فكلهم مشغولون عنها، تركوها لظلمه يمزق أحشاءها كل يوم، ويهد قواها كل لحظة، وينفث بغضه فيها بألوان التعذيب شتى، تركوها له لحماً، ولهم من ذكراها العظم الذي يحمل شيئاً من فتات انتمائها، فهي ابنتهم وليست، وهي منهم وليست، وهي وصمة في جباههم لكنهم تركوها للزمن.. فلسطين.. وما يحدث للسبية في بيت زوجها الظالم المجرم..؟؟ يستيقظ الصغار على أنينها، تفزعهم تأوهاتها، تقض نومهم جروحها.. فيتعرفونها.. وفي ذلك منبثق للثقة بأنها لن تُنسى مع الزمن عند الأجيال.. لن تغادر دفاترهم، ولا أناشيدهم، ولا حكايات نومهم, ولا حوارات جلساتهم ولا سطور تعبيرهم.. ستبقى كما كانت لجيلنا نشيد المدرسة صباحاً، وحكايا الأمهات عند النوم عشاءً: «فلسطين ما بكْ حزينة لا فيكِ فرحة ولا فيكِ زينة فلسطين الله يكافي الظالمينا اللي خلوكِ حزينة»...!! خمسة عقود ونيف، ولاتزال كلمات النشيد فوق اللسان.. وأثره في الجِنان.., وطعمه غصة في الحلق.. والسجينة فلسطين تَفقد، وترمم، وتنقضُّ وتقوم.., وتبكي وتمسح دموعها... وجلادها البئيس يبالغ كثيراً في قسوته، وهي حبيسته.. هي الزوجة المعلقة في بيت الجلاد وحدها، تنجب وتُضرب، تربِّي وتُعذَّب، تقوم على المشنقة.., وتنام على السفُّود... يُكوى جلدها كل يوم،، وليلة..., صوتها يعلو كثيراً.. لكنها كاليتيمة، الوحيدة.., المنبوذة.. على سعة وكثرة وقوة أهلها.. لكنهم يتفرجون..، بين فينة وأخرى يتلمظون عنها كلاماً لا أفعالاً.. إلا القلة منهم، من يضعونها أول نبض في جدول إحساسهم, وفكرهم، وفعلهم.. أولئك على بينة من أمرهم بأمرها.. يراهم ربهم, ويسمعهم.. فلينصرك الله أيتها السجينة.., ويفك أسرك برحمته التي وسعت كل شيء.. إذ تبقين يا فلسطين درة في بيتك الكبير، أملاً في الصدر، ودعوة في اللسان، وحساً في الجِنان, وقضية عربية، وإسلامية لن تطوى الصحائف عنكِ أبداً... والله غالب على أمره، ينقذكِ ما مر الزمان، وحطَّت مراكب النجاة على المرساة.. ويدحر جلادكِ, ويشتت أمره، ويعيده للتيه ما استفحل, واستقوى، فالله القوي المنتقم، العزيز المعز,.. وهو الرحمن الرحيم. عنوان المراسلة: الرياض 11683 **** ص.ب 93855