الوطن والمواطنة هي الانتماء الأول الذي يجب أن يسمو على أي انتماء، سواء كان انتماءً إقليمياً أو مذهبياً أو قبلياً. غير أن من يرصد بعين فاحصة المنشآت الحكومية وتشكلات السلطة فيها، ومن يشغلها، يجد أن شعار (المواطنة أولاً ومن ثم الكفاءة) هو مجرد شعار يُرفع، وربما يُزايد عليه، ولكنه يُغيّب عند التطبيق؛ فالإقليمية والمحسوبيات هي أولاً، وقبل المواطنة والكفاءة أيضاً. ومنعاً للإحراج أريدكم فقط أن تأخذوا أي منشأة من منشآت الدولة، وتُجيلوا النظر في انتماءات المتنفذين فيها، وفي صُناع قراراتها، ستجدون أن (الإقليمية) والمحسوبيات في الغالب هي المعيار الذي مرر بروز هذا وهَمش ذاك، رغم أن كفاءة من تَمّ تهميشهم في حالات كثيرة أعلى وبكثير ممن نالوا قصب السبق؛ فأين شعار (المواطنة أولاً ومن ثم الكفاءة)؟! في تقديري أن هذا بالمختصر المفيد (فسادٌ) محض؛ يجب أن تتولى البحث فيه وعنه وفضحه (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة») لأنه بكل المقاييس إخلال بالأمانة التي أُسندت إلى صاحب المنصب، وتلاعب بالصلاحيات التي يستمد منها قوتها، والتي كان يجب أن يُوظفها لخدمة أبناء الوطن لا أبناء منطقته أو مدينته أو قريته أو قبيلته أو أسرته، واستغلال منحرفٌ للنفوذ؛ فضلاً عن أن مثل هذه الممارسات (الفاسدة) تمس اللحمة الوطنية، وتُكرس الكراهية، وتُشرذم أبناء الوطن الواحد، وتُصيب التعايش بين المواطنين في مقتل، في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى ترسيخ المواطنة وتجذيرها والارتقاء بها لتكون هي المعيار الأول الذي يتقدم على كل الانتماءات مهما كانت هذه الانتماءات. والجدير بالملاحظة هنا أن الذي يسرق المال من منشأة حكومية - مثلاً - ويستغل نفوذه للإثراء غير المشروع، يُعد في ثقافة مجتمعنا (فاسداً)، بل ربما يتبرأ منه أول من يتبرأ أهل منطقته أو قريته أو أقربائه الأقربين، في حين أن من يُقدم (محسوبيه)، سواء من أهل منطقته، أو أقربائه، ويمنحهم الفرصة لأن يبرزوا وينالوا الفرص للوصول إلى أعلى الدرجات الإدارية، على حساب من هم الأكفأ، لا يراه مجتمعنا إلا أنه (فزع لربعه)، ومدَّ لهم يد العون. والأدهى والأمر أن تُصنف مثل هذه الممارسات القميئة - للأسف - على أنها دليل وفاء وكرم وأريحية، رغم أن (السارق) ومن يُمرر محسوبيه على حساب الأكفأ وجهان لعملة واحدة؛ أي أن هذا وذاك بالمعيار الأخلاقي (فاسدان) في المحصلة، بل ربما أن الفساد الإداري أخطر وبكثير من الفساد المالي، فالفساد المالي ينتهي بمجرد إبعاد الفاسد بعقابه أو على الأقل إقصائه من موقعه الوظيفي، في حين أن الفساد الإداري إذا استشرى وعَم و وصل إلى أغلب مستويات الهرم الإداري، يكون اجتثاثه والقضاء عليه، ومحاصرته في غاية الصعوبة، ويحتاج زمناً طويلاً لتتبعه وتقويم اعوجاجاته. إنني في هذه العجالة أتمنى من (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة») أن لا تقتصر متابعاتها وتقصيها فقط على من يتلاعبون بالمال العام، وإنما يجب أن يكون هناك قسم خاص مهمته أن يتلقى شكاوى الموظفين ممن تم إقصاءهم، وحرمانهم من الفرص الوظيفية، وتقريب من هم الأقرب من صاحب القرار؛ فالمنصب الحكومي هو أمانة وتكليف قبل أن يكون تشريفاً، وهو - أيضاً - ليس ملكاً (خاصاً) لمن يشغله، يتصرف فيه تصرف المُلاك في أملاكهم؛ فعندما يُقدم صاحب الصلاحية الأدنى تأهيلاً على الأعلى تأهيلاً حسب معايير النظام فقد (خان الأمانة)، وغش الوطن، وأفسد، فاستحق المساءلة والعقاب؛ وهو هنا لا يختلف في تقديري عمّن يسرق المال، فهذا وذاك في المحصلة النهائية سواء. فهل نسمع قريباً أن (نزاهة) تتبعت مثل هذه التجاوزات والمحسوبيات؟ هذا ما يتمناه كثيرٌ من المظلومين الذين حالت بينهم وبين تحقيق طموحاتهم وأحلامهم إما (المناطقية) أو القرابة والمحسوبيات، فانتهوا إلى الهامش رغم أنهم كانوا الأحق بالوصول. إلى اللقاء