لا يَختلف اثنان على أنَّ طلاب الدراسات العليا وطالباتِها في الجامعات هم من النخبة الذين يُعوِّل عليهم المجتمع على المستويات كافَّة، فهم أساتذة المستقبل، وصُنَّاع الحياة؛ ولذا فلا غرو أن تَحرص الجامعات على الاهتمام بِهذه الفئة، ومدِّ يد العون إليهم في كلِّ ما يَحتاجون إليه.. وبذل الغالي والنفيس في سبيل تذليل كلِّ العقبات التي من شأنِها أن تُعيق هذه النخبة المتميزة عن مواصلة أبحاثهم ودراساتِهم التي ستُشرع للوطن أبواباً للتطوُّر والارتقاء نَحو الأفضل في الجوانب جَميعا. لكنَّ الواقع يؤكِّد أنَّ كثيراً من هؤلاء الطلاب يشتكي من عدم وجود المساعدة المأمولة التي تُسهِّل عليهم الاستمرار في مشاريعهم وبلوغ طموحاتِهم، بل إنَّ الأمر تَجاوز ذلك ليصل إلى أنَّ بعضهم يعاني من وجود العوائق في طريقه، فلا يَملك حينها إلا أن يقف أمامها مكتوف الأيدي، غير قادر على فعل شيء إزاء ذلك. ولستُ في هذا المقام أنوي الحديث عن التسهيل الذي يَجب أن يُبذل لِهذه الفئة المتميزة؛ لأنَّ ذلك سيحتاج إلى مساحةٍ أوسع وعرضٍ أشمل، ولكنني أردتُ هنا فقط أن أشير إلى عائقٍ واحد من العوائق التي (ربَّما) منعتْ الطالب من تَحقيق حلمه، أو على أقلِّ تقدير جعلته يعاني أشدَّ المعاناة حتى يصل إلى تَحقيق ذلكم الحلم. والمفارقة في الموضوع أنَّ الاسم الرسمي المأمول لِهذا العائق يُخالف دوره الواقعي، إنه الأستاذ الذي يقوم بإرشاد الطالب إلى اختيار الموضوع أو عنوان الرسالة بعد إتمام الدراسة المنهجية للدرجة المراد الحصول عليها، أجل.. إنه (المرشد الأكاديمي)، وبدهيٌّ أن أشير قبل الخوض في الموضوع إلى أنني لا أقصد التعميم، بل هي مشاهد ومواقف عايشتُ بعض مَن عانى منها، وسَمِعتُ بعضها الآخر. فما إن يُشرف الطالب أو الطالبة على الانتهاء من الدراسة حتى يُعيِّن له القسم الذي يتبع له مرشداً علمياً يكون عوناً له (أو هكذا أفترض) في جَميع أموره البحثية؛ بدءاً من التفكير في الاتجاه أو التخصص المراد الانضمام تَحت لوائه، حتى قبول الموضوع وإقراره وإعطاء الموافقة النهائية للبدء فيه. غير أنَّ الحقيقة خلاف ذلك عند بعض الطلاب مع مرشديهم، فمنهم مَن يشتكي مِن مرشده الأكاديمي، ويتَّهمه بوأد كثير من الموضوعات التي يأتي بِها، ورفض كثير من الأفكار التي تتكوَّن لديه بعد كثرة تفكيرٍ وطول معاناة، وذلك دون عِلَّةٍ واضحةٍ أو سببٍ مُبَرَّر، مِمَّا يُوقِعُ الطالبَ في حَيرةٍ من أمره، ويوصله أحياناً إلى مرحلة (اليأس)، حين يرى أنه لا يستطيع تَجاوز أول خطوات البحث العلمي؛ بسبب مرشدٍ (غير متفهِّم). والعجيب أنَّ بعض المرشدين حين يرفض موضوعاً ما فإنه لا يُبيِّن السبب المنطقي الذي من أجله جاء هذا الرفض سوى أنه لَم يعجبه، وكأنه هو صاحب الموضوع! ويتجاهل معاناة الطالب التي مرَّ بِها حتى عثر على هذا الموضوع، والمعاناة التي ستكون بعد ذلك حين يبدأ بالبحث من جديد، بل يتجاهل ما هو أهمُّ من ذلك وأثمن، وهو الوقت الذي سيضيع على الطالب والتأخير الذي ربَّما أوقعه في مشكلات كثيرة. بل وصل الأمر إلى أنَّ بعض المرشدين لا يعرف الطلاب أو الطالبات الذين كُلِّف بالإشراف عليهم، ولا يُفكِّر حتى بالسؤال عنهم من مبدأ أنَّ طالب الدراسات العليا أعرف بِمصلحته، وأنه ليس من مُهِمَّة المرشد الأكاديمي ملاحقة طلابه والنظر في أمورهم، أو أنَّ لديه من الأعمال والأبحاث ما يُشغله عن تلك المهام! وكأنَّ إشرافه على ذلك الطالب أو تلك الطالبة مِنَّةٌ منه يتفضَّل بِها عليه وعلى القسم! وأظنُّ أنَّ السبب الرئيس في وقوع مثل هذه المشاهد هو غياب الوعي بأهمية الإرشاد الأكاديمي وتناسي أثره الكبير في إنجاز البحوث العلمية النظرية والتطبيقية التي تعود بالنفع أولا وأخيرا على الوطن، ولذلك فإنَّ الإشكالية تَحدث حين يتوهَّم المرشد الأكاديمي بأنَّ وظيفته مقتصرةٌ على النظر في الموضوع الذي يتقدَّم به الطالب والموافقة عليه أو رفضه، وهذا غير صحيحٍ إطلاقا؛ لأنَّ قبول الموضوع أو رفضه هو في الحقيقة وظيفة القسم حين يعقد اجتماعاً لأعضائه لِمناقشة مثل هذه الأمور، إضافةً إلى ذلك فإنَّ المادَّة اللغوية التي أُخذت منها وظيفة المرشد هي (أرشد)، أي دلَّ وأضاء الطريق، وهدى إلى المكان الصحيح، أي إنَّ من أبرز وظائف المرشد -بل هي وظيفته الحقيقية- أن يُرشد الطالب، ويساعده في اختيار الموضوع المناسب، وأن يقف معه أثناء ذلك، ويكون بِجانبه حين يُقبَل العنوان من القسم ليساعده بعد ذلك في رسم خطته، وإنشاء فصوله، وتكوين مباحثه. ولذا فحين يرفض المرشد موضوعاً فإنه لا يكفي أن يفعل ذلك، بل ينبغي عليه أن يُبيِّن للطالب السبب العلمي المقنع لِهذا الرفض، لا لكي يُبَرِّر موقفه، بل لكي يُفيد الطالب، ويعينه على الابتعاد عن أمثال هذه الموضوعات التي ربَّما شاركت هذا الموضوع في السبب المرفوض لأجله، ثُمَّ إنَّ على المرشد بعد ذلك أن يُوجِّهه التوجيه الصحيح، ويُحاول أن يبيِّن له نوعيَّة الموضوعات الجيدة، والشروط التي ينبغي أن تتوفَّر بِها، والكتب التي ربَّما أعانته في تفتيح عقله، وتفتيق الموضوعات في ذهنه، وهو إذ يفعل ذلك فإنه يُوفِّر الوقت والجهد على الطالب، ويقوم بِمهامه التي اُؤتُمِن عليها على أكمل وجه. ثُمَّ إنَّ هنا أمراً مُهِمَّاً ينبغي التنبيه عليه، وهو أن يستوعب المرشد الأكاديمي أهَميَّة تعدُّد زوايا النظر، واختلاف الرؤى، وأن يكون على وعيٍ تامٍّ بأنَّ ما يراه غير مناسبٍ أو ليس بصحيح، قد يراه غيره مناسباً وصحيحاً، وأنَّ الموضوع الذي لَم يُعجبه قد يُعجب غيره، ولذا يَجب على المرشد ألا يُحجِّر واسعا، وأن يكون لديه انفتاحاً في الرؤية وتوسُّعاً في قبول الآراء ووجهات النظر، وبناءً على ذلك فعليه أن يفتح الأبواب قدر الإمكان لقبول الموضوعات، خاصَّةً إذا كان الطالب مُصِرَّاً عليه، ومُتمسِّكاً به، ومُتحمِّساً له، حتى وإن كان المرشد رافضاً للموضوع، ويُخالف توجُّهاته، لأنه إن فعل ذلك فقد خان الأمانة التي مُنحت له، وتسبَّب في إعاقة مشروعٍ علميٍّ قد يكون له شأنٌ كبيرٌ في جانبٍ من جوانب الحياة. [email protected]