اختار الله المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون سيد ولد آدم، وجعله خاتم رسله، وجعل شريعته أكمل الشرائع، وأنزل عليه القرآن العظيم، وتحدى به سائر خلقه. وأراد الله تعالى أن تستمر الحجة على الخلق قائمة إلى قيام الساعة، فاختار لصحبة نبيه خير الخلق بعد الأنبياء والرسل ليكونوا حملة الكتاب والسنة إلى من يأتي بعدهم، فائتمنهم على حمل الوحيين بعد أن محصهم تمحيصا؛ وصاروا لخير الخلق صلى الله عليه وسلم وزراء مخلصين، وأنصارا محبين، وأعوانا صادقين؛ يذبون عن شريعته، وينافحون عن سنته، ويحافظون على كتابه؛ وظهرت عليهم علامات الصلاح في السمت والسيما والهدي والصدق؛ أخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام حتى دوى صوت الحق مجلجلا في كل أصقاع الدنيا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. وقد علم الله تعالى أن من عباده من سيؤمن بدعوتهم ويكون سيفا إصليتا لنشر الحق، ومنهم من سيشرق بها ويردها ولا يقبلها من أصحاب القلوب المريضة والفتن المحيقة، وهذا الصنف من الناس ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله، فكان من مكائدهم الدسائس التي تنخر في جسد الأمة الإسلامية جمعاء. فأشغلوا الناس بتتبع أخطاء الصحابة رضي الله عنهم، وتلفيق التهم، والسعي لترسيخ صورة قاتمة شوهاء عنهم، ليصلوا إلى الطعن في الدين من خلال الطعن في الكتاب والسنة، فإنهما لم يبلغانا إلا عن طريقهم، والصحابة غير أمناء عندهم، وهذه مقدمة، نتيجتها: أن كل ما نقلوه لا يقبل، فالكتاب والسنة باطلان. قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. قال تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما». هاتان الآيتان الكريمتان بيان للحكمة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهي: إظهار الإسلام على جميع الأديان، وهذا لا يتم إلا بجهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم الذين وصفهم الله تعالى بإيمانهم والتزامهم في الشرع، وتراحمهم فيما بينهم، وبشدتهم على الكفار، ثم ختم الله الآية بوعد عظيم منه لهم؛ وهو: غفران ذنوبهم، وإعطاؤهم الأجر العظيم؛ وهو جنة النعيم. وذكر الله تعالى طبقات الصحابة ثم قال: «وكلا وعد الله الحسنى» ومن وعده الله الحسنى فإنه لا يمكن أن يدخل النار، بل ولا يسمع صوتها، قال تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها» فثبت أن الصحابة كلهم من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحد منهم النار. وقد تظاهرت النصوص في السنة النبوية المطهرة على فضل الصحابة رضي الله عنهم وعلو مكانتهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه. رواه الإمام أحمد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني» متفق عليه. وقال: «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» رواه مسلم. ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل وصيته لأمته حفظه في صحابته، والإحسان إليهم، وذكر محاسنهم، والكف عن تناولهم بسوء. قال صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا إلى أصحابي». رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. وقال: «احفظوني في أصحابي». رواه ابن ماجه. وقال: «استوصوا بأصحابي خيرا» رواه الإمام أحمد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». متفق عليه. قال سعيد بن زيد رضي الله عنه: والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح عليه السلام. رواه الإمام أحمد وأهل السنن. من هذه النصوص الشرعية التي أوردنا وغيرها أخذ العلماء رحمهم الله تعالى أمورا جوهرية في شأن الصحابة رضي الله عنهم؛ فمن أهمها: عدالة كل الصحابة رضوان الله عليهم. ومما تجب ملاحظته: أنه لا يلزم أن يكون العدل معصوما، بل يقع من العدل الخطأ، ولكن من شأنه سرعة التوبة إلى الله، وأنه إذا ذكر تذكر، وإذا تذكر تاب. وقد أجمع العلماء على عدالة الصحابة رضي الله عنهم؛ لكونهم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته وتبليغ دينه. قال حافظ المشرق الخطيب البغدادي رحمه الله : لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين ... هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء. أ.ه. وبنحوه قال حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه الله . سأل إبراهيم الجوهري أبا أمامة رضي الله عنه: من أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز ؟ فقال: لا نعدل بصحابة محمد صلى الله عليه وسلم أحدا. وقال سيد التابعين أيوب السختياني رحمه الله : من أحسن الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بريء من النفاق، ومن تنقص أحدا منهم، أو أبغضه لشيء كان منه، فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح. وقال إمام الحرم المكي سفيان بن عيينة رحمه الله : من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى... فلا تحدث بشيء من زللهم، ولا ما غاب عنك علمه، ولا تسمعه من أحد يحدث به، فإنه لا يسلم لك قلبك إن سمعت. وقال الإمام أحمد رحمه الله : لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا أن يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك وجب تأديبه. وقال: من انتقص أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر مساوئه كان مبتدعا حتى يترحم عليهم جميعا، ويكون قلبه لهم سليما. أما بعد، فبعد هذه المقدمة، أذكر الذي حملني على كتابتها، وهو مقال كتبه أحد طلبة العلم هدانا الله وإياه في 2/8/ 1430ه في زاوية له في صحيفة سيارة، وجعل عنوان مقاله: (كانوا بشرا) وخلاصة ما جاء في مقاله: أنه قام بعملية إسقاط فلمز كتب التراجم، ومثل ب(صفة الصفوة) و(الحلية) و(سير أعلام النبلاء) وأنها كتب قدمت لنا صورا انتقائية لا تمثل حياة الناس، ثم قام هو بالانتقاء، ففتش عن كل ما يمكن أن يفهم من ظاهره أنه خطأ وقع من صحابي؛ ليقلل من شأنهم رضوان الله عليهم ، وأن منهم من عاش سبعين وثمانين سنة لم يرو فيها حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في شأنه فضل خاص، ثم قال: «إنما نالوا شرف الصحبة». وأقول: سبحان الله ! هكذا يكون شرف الصحبة شيئا يسيرا حتى يقول: ليس لهم فضل إلا الصحبة! هذا الثناء العظيم من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وتزكية كل الصحابة، وتعديلهم، والقطع بإيمانهم، وأن الله اطلع على نياتهم فكانت خالصة له، تبتغي فضل الله ورضوانه، ونيلهم مغفرة من الله تامة ساترة لكل ذنوبهم، ووعدهم بالجنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأمره بحفظه فيهم، والإحسان إليهم، والإمساك عن الخوض في أخطائهم، وذكر محاسنهم، وأن غيرهم لو أنفق عدل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم، وقد علم أن غيرهم لو ظل عمر نوح في عمل صالح ما بلغ موقف صحابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع جهادهم وبذلهم وعطائهم، ونقلهم الكتاب والسنة، وفتحهم للبلاد، ونشرهم لدين الله، وإجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، كل هذا لا يراه الكاتب هداه الله شيئا يستحق الإشادة والتفضيل، فيقول: ليس لهم إلا شرف الصحبة! ثم جاء بطامة، وصف فيها حياة الصحابة قائلا: «الواحد منهم عاش سبعين أو ثمانين سنة لم تكن كلها نسقا واحدا، وإنما كانت حالات شتى في النفس والعقل والقوة والضعف» كذا قال، وما داموا حسب ظنه عاشوا حالات شتى في أنفسهم وعقولهم، فهذا سيجعل المتصور يتصور الصحابي المضطرب نفسيا، والمخبول.. وهكذا، ونقول للكاتب: هات صحابيا واحدا فيه ما ذكرت من كتاب انتقائي أو غير انتقائي. ثم واصل الكاتب قائلا كلمة شنيعة: أنهم عاشوا «الإيمان وضده» ولا أعلم هل يفهم الكاتب معنى الضد، فالسواد ضد البياض، والموت ضد الحياة، والكفر ضد الإيمان، إذا جاء هذا ذهب ذلك، وقد علم كل عاقل أن الضدين لا يجتمعان، فما معنى أن تصف الصحابة بالإيمان وضده؟! ثم أخذ هذا الكاتب يجاهر بتتبع اجتهادات وأخطاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فذكر أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة الكرام؛ ليحصي أخطاءهم زعما، وليصل من هذا التتبع إلى أنهم كبقية الناس لا فضل لأحدهم إلا الصحبة. ومن عجيب أمره أنه اعتذر لنفسه عن هذا التتبع، فقال: «هنا لسنا بصدد جمع عثرات مجتمع ما، بل إن نفهم أنهم كانوا بشرا منساقين وراء فطرتهم»، أقول: ومن زعم أنهم لم يكونوا بشرا؟ نعم كانوا بشرا لكن لا ككل البشر، بل بشر اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه، وحمل كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونشر دين الإسلام، وتطبيقه في واقع عملي لا ولن يتكرر مثيله. ثم قال عن الصحابة: «وكثيرون لديهم أصل الإيمان ولبه» سبحان الله كثيرون، هكذا؟ حتى كماله، أو حتى زيادته بخلت بها على الصحابة رضي الله عنهم؟! ثم لم يقنع بكل ما قال حتى ختم مقاله بجعل مجتمع الصحابة رضي الله عنهم خليطا ممن لديهم أصل الإيمان، ومن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ومن يريد الدنيا ومن يريد الآخرة، ومنهم منافقون..إلخ. ثم وصل إلى نتيجته التي يدندن حولها كثيرا فقال: إنه إذا كان مجتمع الصحابة كذلك، فارضوا أنتم بما في مجتمعكم من أخلاط شتى وأفكار متباينة!. * مدير مركز الدعوة والإرشاد في جدة