مبتعثونا إلى خارج المملكة يحملون آمال هذا الوطن لنقله إلى عالم المدنية والحضارة والتقدم ليكون لنا مكاناً تحت الشمس. وهذا ما يتفق عليه جميع صُناع التنمية؛ فقد كان الابتعاث إلى الغرب بمثابة حجر الزاوية لدول الشرق الأقصى الذي انطلقوا على أساسه إلى آفاق التقدم العلمي والتقني والحضاري، ومن خلاله لحقوا بالغرب؛ وهاهم الآن يكادون أن يتفوقوا عليه في مجالات عديدة، بعد أن تعلموا منه، واقتبسوا من مناهجه وأساليبه، كيف يصلون إلى ما وصل إليه من تفوق. وأهمية الابتعاث لا تقتصر على التعلم في المعاهد والجامعات المتخصصة فحسب، وإنما في التعرف على مثل هذه المجتمعات، والتعايش مع أهلها، والاطلاع على الجوانب الحياتية خارج مراكز الدراسة، وفهم هذه المجتمعات، وحياتهم، وأسباب تفوقهم؛ هذه الجوانب لا تقل أبداً في أهميتها عن التعليم المباشر في مراكز الدراسة والمعاهد والجامعات المتخصصة. وحسب ما تردني من أخبار عن الطلبة السعوديين المبتعثين إلى الخارج، فإن أغلبهم يعيشون في عزلة عن المجتمع الذي يتلقون التعليم فيه؛ فالكثيرون منهم بمجرد أن ينتهي من التحصيل العلمي اليومي في المعاهد والجامعات، ينصرف إلى زملائه السعوديين، فيعيش وكأنه في استراحة في مدينة من مدننا، فلا يربطه بالمجتمع الذي يعيش فيه إلا الروابط الرسمية التي يضطرُ إليها مرغماً، أو حياة الليل والسهر مع ما يكتنفها من انحرافات أخلاقية؛ ما يجعل قدرتهم على الاستفادة من الأوجه الأخرى المعرفية والثقافية والحياتية لهذه المجتمعات المتقدمة في منتهى المحدودية. بل سمعت - أيضاً- أن المبتعثين في بعض الدول التي تتضخم فيها أعداد السعوديين كالولايات المتحدة - مثلاً - تتكون شلل المبتعثين السعوديين فيها على أساس المنطقة التي ينتمي إليها المبتعث في المملكة، وأحياناً حسب انتمائه القبلي، ما يجعله لا يتقوقع فقط في معزل عن أهل البلد المبتعث إليه، وإنما حتى عن السعوديين الذين لا يُشاركونه المنطقة أو القبيلة التي ينتمي إليها، الأمر الذي يُكرس الشعور بالانتماء المناطقي أو القبلي، ويجعله جزءاً من تكوينه الثقافي، خاصة وأنه يعيش في مجتمع يجد نفسه فيه غريباً وفي حاجة للشعور بالدفء والحماية، فتأتي مثل هذه الانتماءات التقليدية لتكرس فيه - دون أن يعي طبعاً - أنه ابن المنطقة أو القبيلة أولاً، وهذا ما سينعكس فيما بعد على تكوينه النفسي والثقافي ونمط تفكيره واختياراته وتعاملاته بعد التخرج وعودته إلى المملكة، ليعود يحمل شهادة في تخصصه، غير أنه من الناحية المدنية والحضارية والثقافية مازال يحيا بالعقلية التقليدية التي تربّى عليها قبل الابتعاث. لذلك.. فإنني أقترح لعلاج هذا التقوقع، ودفع المبتعث للخروج من هذه الشرنقة، أن تفرض وزارة التعليم العالي على جميع الطلبة المبتعثين، أن يُقدموا قبل التصديق على شهاداتهم بعد التخرج، ما يُثبت أنهم أثناء سنوات الدراسة قاموا بنشاطات تطوعية خارج مراكز التعليم (نشاطات لا صفية)، مثل أن ينخرط الطالب في جماعات العمل التطوعي أو الإنساني، أو المشاركة في جماعات البحث والكشف والتنقيب وغيرها، ما يضطره مُرغماً اقتحام تلك المجتمعات والتعرف عليها والتفاعل معها، ولمدة لا تقل في تقديري عن ستة أشهر بالنسبة لمبتعثي التعليم الجامعي، وثلاثة أشهر لمبتعثي التعليم العالي؛ وبإمكان المبتعث أن يُوزعها على عدد سنوات الدراسة. إننا- أيها السادة - لسنا في حاجة إلى متخرجين متخصصين فقط، وإنما في أمس الحاجة إلى عقول مُتفتحة واعية ومتمدنة ومتحضرة، اطّلعت وتثقفت وتفتحت بقدر ما درست وتخصصت في حقل من العلوم؛ بهذه الطريقة نستطيع أن نبني بلادنا على أسس حضارية سليمة؛ فالابتعاث ليس هدفه ومراميه تحصيل (العلم) في الجامعة أو المعهد فحسب، ولكنه - أولاً - في التعايش الفعلي مع الحياة في المجتمعات المتقدمة. إلى اللقاء