لو تأمَّلنا المكانةَ الرفيعة التي تبوَّأتها الدول المتقدِّمة لوجدنا أنها لم تأتِ من فراغ، ولكنَّها ثمرةُ تخطيط طويل وعمل دؤوب، يبدأ أولَ ما يبدأ بالإنسان وتنميته ومراكمة رأس المال البشريِّ، باعتماد المنهج العلميِّ في البحث؛ من استقراء وقياس؛ للوصول إلى الحُكم على الكلِّ (التنمية) من خلال الجزء (الإنسان)، أي الاعتماد على شباب البلاد وجهودهم ومشاركتهم في التنمية وخدمة وطنهم. وكي نجعلَ من هذه الأقوال أفعالاً لا بدَّ من أن نمنحَ الشبابَ فرصة حقيقيَّة للعطاء، وهنا ظهر مصطلح (السَّعوَدَة) بمعنى إحلال المواطنين السعوديين محلَّ الأيدي العاملة الوافدة في وظائف القطاع الحكوميِّ والخاصِّ. وهذا ينسجم مع حقِّ السعوديِّ في أن يكونَ وطنه له أولاً ويكونَ هو لوطنه أيضًا، ولا يمكن لعاقل أن يقتنعَ في أن يكونَ مواطنٌ في بلده عاطلاً من العمل، والمقيم الوافد يتمتَّع بالعمل وبامتيازات لا حصرَ لها. واستنادًا لما سبق قامت الحكومةُ باتخاذ التدابير لمعالجة البَطالة في سوق العمل السعوديِّ من خلال ما يسمَّى (نظام نطاقات ذو الألوان الثلاثة) الذي يحدِّد نِسَب السعودة في المنشآت السعودية،فجاء هذا النظامُ بعمليَّة سعودة مستعجلة، دون التفات لخصوصيَّة سوق العمل السعوديِّ،وكأنَّ التوظيف مجرَّد نسبة مئوية دون التعمُّق في إعداد برامج التوظيف، ودراسة مدى فاعليتها وفائدتها للوطن! إن نظام نطاقات نظر إلى السعودة (كمًّا)لا(كيفًا)، أي أن الشركة التي توظِّف شابًّا سعوديًّا بوظيفة سائق براتب ثلاثة آلاف ريال، تعادل شركةً أخرى توظِّف مهندسًا سعوديًّا أو مديرًا إداريًّا سعوديًّا براتب عشرين ألفَ ريال، كنسبة مئوية من السعودة، ومن ثَمَّ فإن الهدف من تقليل نسبة التحويلات الماليَّة للأيدي العاملة الأجنبيَّة لم يتحقَّق كما ينبغي. وأعود فأقول: إن (نظام نطاقات) سعودةٌ مستعجلة؛ لأنها لم تأخُذ بعين الاعتبار أن مشكلة البَطالة في بلدنا ترتكز على ناحيتين: الناحية الأولى: عدم تناسُب مُخرَجات التعليم مع سوق العمل. والدليل على ذلك الأرقام، فحسب إحصائيَّة وِزارة التعليم العالي عام 1431-1432ه: إن أكثر من ثلُث مُخرَجات التعليم لا تتناسب مع سوق العمل، وإن نسبة المتخرِّجين في التخصُّصات الفنيَّة والهندسيَّة والإدارية يشكل قُرابة 8 %. وأكَّدت دراسةٌ حديثة رُفعت نتائجها لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز: إخفاقَ السعودة، وأظهرت أن مُعوِّقات تنمية الموارد البشرية تشمل زيادةَ عدد خرِّيجي التخصُّصات النظرية عن المطلوب في سوق العمل، إضافة إلى قلَّة استقرار الأيدي العاملة الوطنيَّة في وظائف القطاع الخاصِّ. ويرجع ذلك برأيي إلى استهانة الموظَّف السعوديِّ بالعمل؛ لعلمه أنه لن يُفصلَ منه لحاجة الشركة إليه؛ لاستيفاء النسبة المطلوبة منها من السعوديين. وقالت الدراسة أيضًا:إن أسلوب التعليم في المملكة لا يتواءم مع حاجات سوق العمل؛ إذ يعتمد على أسلوب التلقين أكثر من الإبداع والابتكار، مع افتقار المناهج التعليميَّة إلى تنمية القدرة على الإبداع، وتوجُّه معظم برامج الدراسة في مراحل التعليم الثانويِّ والجامعيِّ إلى الجوانب النظرية، وقلَّة الاهتمام بالتدريب المهنيِّ. إذًا ليس القطاع الخاصُّ هو الذي لا يرغبُ في توظيف أبناء البلد، ولكنَّ التعليم هو الذي لا يرغبُ في ذلك. الناحية الثانية: افتقاد أكثر شبابنا ما يسمَّى (ثقافة تقدير العمل). إن هذه الثقافة تلقى اهتمامًا كبيرًا ورعاية دائمة في مجتمعات أخرى، حيث نجد العاملين فيها يُجيدون فنونَ المهنة ومهارات الحِرفة التي يعملون فيها، فضلاً عن التزامهم بمواعيد العمل، وسعيهم المستمرِّ نحو التطوُّر والرقيِّ في المجال الذي يمتهنونه. أما في بلدنا فالشبابُ يخشَون أولاً العمل في القطاع الخاصِّ، ويبحثون عن الوظيفة الحكوميَّة التي يعدُّونها أكثرَ أمانًا واستقرارًا وأقلَّ جهدًا، في حين هناك بعضُ الشركات في القطاع الخاصِّ تُسهم في تطوير مهارات الموظَّف وتصل به إلى مواقعَ رفيعة ورواتب عالية جدًّا، فضلاً عن جعله عنصرًا منافسًا في السوق، وازدياد معدَّلات الطلب عليه؛ لاستفادة الشركات والمؤسَّسات من خبراته وإمكاناته التي تتبدَّى إيجابيًّا في أداء المؤسَّسة التي يعمل فيها.إن ثقافة العمل الصحيحة لا تُلاحظها بين شبابنا، ليكونوا أفرادًا مُنتجين يمتازون بنظرة إيجابيَّة للعمل منذ الصِّغَر،أيًّا كان هذا العمل، بل هناك - ويا للأسف - نظرةٌ خاصَّة تتطلَّع إلى العمل الحكوميِّ على أنه أقلُّ التزامًا وأكثر مرونةً في متطلَّباته. ولذلك نجد أن ثقافة اللامبالاة والتسيُّب الوظيفيّ ِراسخةٌ جدًّا لدى الموظَّفين السعوديين؛ لأن بعضهم لا يؤمنون بأهميَّة تطوير القدرات والمهارات الوظيفيَّة، ولا يُلقون بالاً لضرورة إتقان العمل في مراحله المختلفة. وإذا كانت البَطالة علميًّا تعني عدمَ وجود وظائفَ للشباب في سنِّ العمل، وللباحث عنها والراغب فيها، فإن لدينا وظائفَ متوافرة وفرصَ عمل كثيرة، ولكن في الوقت نفسه لدينا شبابٌ يفضِّلون البقاء في البيوت، أو التسكُّع في الشوارع؛ لأن الراتب لا يعجبهم، أو الدَّوام لا يناسبهم، أو المركز لا يُرضي أحلامهم! وهذا ما يسمَّى بالبَطالة الاختيارية وهي الغالبة لدينا. ناهيك عن ضعف رغبة العامل السعوديِّ في التنقُّل بين مدينة وأخرى بحسَب متطلَّبات العمل، وسيطرة النظرة السلبيَّة للعمل المهنيِّ واليدويِّ في المجتمع. أقول: إن حلَّ مشكلة البَطالة في المملكة يحتاج إلى حلول عمليَّة توافق طموحَ أبناء هذا البلد الذي يضمُّ نحو 25% من موارد الطاقة في العالم، وأمنيَّات خادم الحرمين الشريفين في العيش الكريم لكلِّ أبناء وطننا الغالي، وباعتقادي إن الحلَّ يكمن في عدد من الأمور: 1 - إيجاد آليَّات لحلِّ مشكلة البَطالة أفضل من الضغط على شركات القطاع الخاصِّ بعمليَّة السعودة المستعجلة، وإذا كان لا بدَّ من الاعتماد على (نظام نطاقات) فيجب على الأقلِّ تحديدُ قطاعات السعودة، وذلك بالاهتمام بنوعيَّة الوظائف التي يجب دعمُها؛ مثل وظائف الطاقة التي تحتاج إلى خبرات متراكمة، ولن تستغنيَ عنها بلادُنا إلا عند نفاد النَّفط. 2 - توعية الشباب وغرسُ قيمة العمل في نفوسهم؛ ابتداء من البيت والمسجد والمدرسة وانتهاء بأركان الدولة جميعًا؛ لنتحوَّلَ من مجتمع يقوم على جهود الآخرين إلى مجتمع يقوم على سواعد أبنائه؛ لينهضَ بالوطن والمجتمع. وتأكيدُ فكرة أن قيمة العمل تنطلق من نظرة الإسلام الذي يحثُّ على العمل والإنتاج، بل إنه يتعدَّى ذلك إلى الحثِّ على إتقان العمل، إن شبابنا يحتاجون إلى برامج توعية مكثَّفة في مُختلِف وسائل الإعلام لغرس مفهوم حبِّ العمل وتقبُّله أيًّا كان. 3 - وجوب وجود مُخرَجات تعليميَّة جيِّدة تتجلَّى في أداء الموظَّف في سوق العمل، وهذا يتوقَّف على المؤسَّسات التعليميَّة في جزء كبير منه، وعلى تفعيل برامج التدريب على رأس العمل، وهي مسؤوليَّة مشتركة بين الدولة والقطاع الخاصِّ. وأعتقد أن التدريب لم يُنتج حتى الآن قوًى عاملة قادرة على تلبية احتياجات السوق من الأيدي العاملة المهنيَّة المؤهَّلة؛ بسبب ضعف البرامج التدريبيَّة وعدم جدِّيتها في كثير من الأحيان. ختامًا، إذ أقول هذا الكلامَ وأعرض هذه الحلولَ قد أكون مخطئًا و قد أكون مصيبًا، لكنَّ حرصي على هذا الوطن وقناعتي بأن السعودة بالمعنى الحقيقيِّ هي إحلالُ السعوديين الأكفياء في الوظائف المناسبة، هو ما دفعَني إلى كتابة هذه السُّطور، فالمواطن السعوديُّ له الحقُّ بالعيش الكريم في وطنه، وله حقُّ البناء والنهوض به، والعيش فيه عيشةً تكفُل الحرية والكرامة الإنسانيَّة، ولن يكونَ له ذلك إلا بالعمل والجهد.