لا يزال التاريخ والسير أرفع العلوم وأهمها مكانة، ولها مرتبة رفيعة بالمقارنة مع غيرها من العلوم، ففي علم التاريخ والسير العبر والعظات وفيها طرق القدوات ومسالك رموز الأمة، وفيها ذكر الأخبار والروايات وتراجم الأفذاذ، ودراستها والإلمام بها نور للسالك فيما استشكل عليه مهما كان فنه، ونحن هنا نشير للسير والأخبار التي نأت عن الترهات والمغالطات والمشاحنات والأخبار الملفقة وسمت عن مزالق الأغراض غير الشريفة، فالحديث هنا عن باب عظيم يدخله كل عظيم يريد النفع له ولأمته، ذكر مير خواند محمد بن خواندشاه (1433-98) في مقدمة كتابه تاريخ روضات الصفا (تاريخ ملوك فارس) عدة فوائد للتاريخ منها: معرفة الناس، واطلاع المرء على تجارب كثيرة وقد قال الحكماء: إن التجارب من فضائل بني آدم، وأن التاريخ يثلج صدور أرباب الفضل ذوي القدرة فيه هدوءاً وسكينة ويحملهم على رباطة الجأش عند وقوع الحوادث الجسام والنوازل المدلهمة، وغيرها من الفوائد. يقول العلامة الشيخ عبدالرحمن الجبرتي الحنفي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار (ج1 ص3): «...التاريخ علم يبحث عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن...» فالجبرتي يؤكد أن لتاريخ وترجمة الإعلام والعظماء من الأمة الفوائد الجمة، قال الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمه الله-: «سير وتراجم العلماء أحب إلينا من كثير من الفقه»، وفي أهمية التاريخ وعلو شأنه ألف الإمام شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي كتاباً سماه: «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ» تحقيق المستشرق فرانز روزنثال وترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، يقول الإمام السخاوي في سبب تأليفه للكتاب: «وبعد، فلما كان الاشتغال بفن التاريخ للعلماء من أجل القربات، بل من العلوم الواجبات المتنوعة للأحكام الخمسة بين أولي الإصابات» إلى أن قال: «فأردت إتحاف العارفين السادات وأن أظهر ما فيه من الفوائد المأثورات وأشهر كونه من الأصول المعتبرات»، ويقول الجبرتي: «وقال أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن خميس في مقدمة (تاريخ مالقه) إن أحسن ما يجب أن يعتنى به، ويلم بجانبه، بعد الكتاب والسنة، معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار، ففيها تذكرة بتقلب الدهر بأبنائه، وأعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه، وتنبيه أهل العلم الذين يجب أن تتبع آثارهم، وتدون مناقبهم وأخبارهم، ليكونوا كأنهم ماثلون بين عينيك مع الرجال، ومتصرفون ومخاطبون لك في كل حال، ومعروفون بما هم به، متصفون فيتلو سورهم من لم يعاين صورهم، ويشاهد محاسنهم من لم يعطه السن أن يعاينهم، فيعرف بذلك مراتبهم ومناصبهم...إلخ». وعلى هذا فنحن بصدد سيرة عالم من العلماء ومسؤول من المسؤولين إنه صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن دخيل بن يويسف التميمي رحمه الله، والذي ولد في ثرمداء عام 1349ه، لقد كان الشيخ رحمه الله في طفولته موهوباً يختلف عمن هم في سنه، فقد نشأ في بيئة زراعة وفلاحة، ولكن طموحه أعلى ونظراته مختلفة، فكان شغوفاً بالقراءة والتعلم في بلد لا تتوفر فيه الفرص التعليمية، لكنه بدأ تعليمه كما الآخرين في الكتاتيب، كان عمه سعد بن محمد بن دخيل بن يويسف فخورا بابن أخيه وكان يراه بارزاً متميزاً فيجعله وهو صغير يقرأ متون الكتب في فنون مختلفة على جماعة جامع ثرمداء، لكن بصره لم يزل يتقلب في فضاء بلدته يبحث عن وجهة يجد فيها ما يشبع نهمه للعلم ورغبته في طلبه، فانتقل للرياض حيث العلماء والمحدثين، يقول الشيخ إبراهيم بن محمد السيف في كتابه «المبتدأ والخبر لعلماء في القرن الرابع عشر وبعض تلاميذهم، مجلد 5، ص 194» عن فضيلة الشيخ محمد رحمه الله: «في عام 1366ه سافر إلى الرياض وقرأ على العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها، وأخيه فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ثم استأذن من شيخه محمد بن إبراهيم فالتحق بمساعدة شيخه بدار التوحيد في الطائف في مطلع عام 1368ه ودرس فيها واجتهد حتى حصل على شهادة الكفاءة ثم عاد بعد افتتاح المعهد العلمي فالتحق به عام 1372ه، وبعد تخرجه من المعهد التحق بكلية الشريعة عام 1378ه مواصلاً الدراسة على أيدي عدد من المدرسين من علماء المملكة وغيرهم في مختلف العلوم وحصل على شهادة كلية الشريعة عام 1382ه» أ.ه. والشيخ محمد بهذا كان ضمن أول دفعة تتخرج من أول كلية تقام في الرياض. كان الشيخ محمد رحمه الله عالماً ذا خلق حسن وأدب جم لا يمل مجلسه، وهو العالم بالشريعة والمتبحر فيها، لم يقتصر تحصيله العلمي ومخزونه الثقافي على علم معين أو فن بذاته بل تنوعت مشاربه وتعددت إسهاماته الثقافية، يقول الشيخ سليمان بن إبراهيم الدخيل رحمه الله صاحب كتاب « ثرمداء عبر التاريخ» في ترجمته: «آثاره: له كتابات دينية وأدبية وتاريخية وجغرافية في الصحافة السعودية فكان له عمود ثابت في مجلة اليمامة تحت عنوان (مشكلات على الطريق) وآخر في جريدة القصيم تحت عنوان (مجهر الحقيقة) وله مقال طويل في عدد من مجلة الجزيرة بعنوان (الوشم في التاريخ)» ولم يقف جريانه العلمي وتدفقه الثقافي على مشاركاته الصحفية، بل له مؤلفان مخطوطان الأول عبارة عن نظرات نقدية على أمهات كتب التراث في حوالي 500 صفحة، كما كان للشيخ محمد رحمه الله شغف بالرحلات والكتابة عن الأماكن والبلدان فقد قام رحمه الله برحلة لمعظم بلاد نجد بدأها في 1-3-1383ه وألف عن هذه الرحلة كتاباً في حدود 200 صفحة، بل إنه زار معظم الدول العربية، ومن رحلاته زيارة للقدس تشرف فيها بالصلاة في المسجد الأقصى. في مطلع عام 1377ه وحينما أنشئت رئاسة القضاء في نجد والمنطقة الشرقية والحدود الشمالية برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله أمر سماحته رئيس القضاة الشيخ محمد بتعيينه مساعداً للمفتش العام برئاسة القضاء. (السيف، 195)، ثم تدرج رحمه الله في الوظيفة حتى شغل منصب وكيل وزارة العدل بالنيابة، كما كان عضو المجلس الأعلى للأوقاف. كان رحمه الله محل ثقة بإخلاصه في العمل وتواضعه في التعامل مع الرئيس والمرؤوس، مثل دولته خير تمثيل في العديد من المؤتمرات العالمية في كل من باكستان والمغرب وكذلك في الولاياتالمتحدةالأمريكية. كان رحمه الله هادئ الطبع ذا شخصية مهيبة طموحاً عصامياً لين الجانب متواضعاً، يبذل المال للفقير والمحتاج، ينفق نفقة من لا يخشى الفقر ليرسم ابتسامات على محيا كل محتاج. توفي الشيخ محمد رحمه الله في الرياض يوم 29 رمضان 1412ه وقد رثاه جماعة من الشيوخ والعلماء في الصحافة السعودية شعرا ونثرا ومن أجود ما رثي به قصيدة أبدعتها قريحة ابن عمه: محمد بن عبدالرحمن بن دخيل اليوسف حيث قال: ولو أن لي فيما قضى الله حيلة لأهديت روح الشيخ ما ظل من عمري لقد كابد الدنيا، وأمضى حياته طموحاً عصامياً بعيداً عن الكبر فيا رب قدس روح من مات صائماً وقام ليال العشر من آخر الشهر سعد بن دخيل الدخيل - ثرمداء [email protected]