في مقالنا السابق (الجماعة الإسلامية ماض شيوعي وحاضر ديمقراطي) عرضنا للمصطلحات وذكرنا خطورة التلاعب بها والاستهتار في إسقاطها بلا تبيئة ولا محاولة جادة للفهم، حيث تنتزع من سياق وزمن لا يستويان مع الأرضية الثقافية والتاريخية لمنطقتنا المسلمة وأوصي باقتناء رسالة الدكتوراه المقدمة لجامعة أم القرى كلية الدعوة وأصول الدين قسم العقيدة تحت عنوان (ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية عند أهل السنّة والجماعة) للدكتور سعود بن سعد بن نمر العتيبي وهي مطبوعة ومتداولة عن مركز التأصيل للدراسات والبحوث 1430ه فهي رسالة فخمة في بابها وحلوة في عين كل من رام الانضباط والفهم السليم وما أحوجنا لمثل هذه الجهود المتخصصة في كل باب طرقته أيدي العابثين بالأفكار والمفاهيم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردوا عليه ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا: إنما قابل بدعة ببدعة ورداً باطلاً بباطل). وقال في مجموع الفتاوى (ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها). والمصطلحات التي تجلب لنا الآن من المعامل الثقافية والسياسية الأمريكية والبريطانية والفرنساوية وتجلب لنا معها الأغلال والدوائر المغلقة التي لا نزال ندور ونحور فيها متخبطين ومبررين لكل مصطلح دخيل ومحاولة لبس تلك الخلقان على التفاوت الظاهر بين مقاساتنا ومقاسات القوم يعبر عنها ابن تيمية في الرد على المنطقيين بقوله (وإذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها وإذا ضاقت العقول والتصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان كما يصيب أهل المنطق اليوناني تجدهم من أضيق الناس علماً وبياناً وأعجزهم تصوراً وتعبيراً ولهذا من كان منهم ذكياً إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك أهل المنطق طوّل وضيّق وتكلّف وتعسّف وغايته بيان البيّن وإيضاح الواضح من العي وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم). يقول الألسني (نعوم تشومسكي) مؤكّداً على العلاقة بين المصطلح ومحل نشأته (إن كل اسم يعود إلى صنف لغوي يدخل بطريقة محددة في نظام القواعد والأشياء المسماة توضع في بنية معرفية ذات تعقيد معين وهذه البنى التي تبقى فعَّالة بانتقال الأسماء إلى مستخدمين جدد والمستمع عندما يلاحظ أن شيئاً قد سُمي كذا أو كذا فإنه سيستوحي نظاماً لبنية لغوية لكي يضع الاسم بوضعه الصحيح ويستوحي نظاماً للعلاقات والشروط المفهومية وكذلك بعض المعتقدات الواقعية لكي يضع الشيء المسمى في مكانه الصحيح ومن أجل فهم التسمية يجب علينا أن نفهم الأنظمة وملكات العقل التي تبرز خلالها). بين الشورى والديمقراطية هنا حديث ورد مفصّلاً في مسلم ولفظه في البخاري عن (ابن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم خرجت لأمر لا نرى أن ترجع عنه وقال بعضهم معك بقية الناس وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال ارتفعوا عني، ثم قال ادع الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال ارتفعوا عني، ثم قال ادع لي من كان هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبحٌ على ظهرٍ فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة ابن الجراح أفراراً من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كانت لك إبلٌ فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علماً سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، قال فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف وفي حديث معمر فسار حتى أتى المدينة فقال هذا المحل أو قال هذا المنزل إن شاء الله تعالى). لماذا هذا النقل لنقول إن عمر رضي الله عنه لو لقيه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأعطاه النص لما اعمل الشورى وهنا إشارة لا تخفى على ذي عينين إلى أن الشريعة هي المحل الأول لمصالح الناس أو ما يرونه هم مصالح لأن الشريعة لا تخرج عن المصلحة أبداً. والذي يظهر أن مصطلح (الديمقراطية) مصطلح إعلامي أخذه الإسلاميون وغيرهم هذا المأخذ وحملوه على هذا المحمل بأنه حكم الشعب لنفسه وأنه (الحرية - العدالة - المساواة) ضد ( الكبت - الظلم - التمييز )، إذن هو أنشودة جميلة أخاذة ولو فككنا هذا المصطلح وبنياته وأرجعناها لسياقها الترثي الإغريقي وبعد ذلك نظرنا إليها في المجال السياسي الغربي لوقفنا على مدى الخلط والتخبط وضرب السياقات والتراثات والمجالات بعضها ببعض. لقد عانى المبشّرون الأوائل بفكرة الديمقراطية في بواكير الاحتكاك والتعرّف على الغرب الناجح المتميز مقابل الشرق المتخلف المتعجرف وكان لديهم حساً إسلامياً فهم ابتلعوا المصطلح على أساس أنه صنو الشورى، بل هو الشورى بعينها (الأفغاني ومحمد عبده) وهكذا استمر الحال إلى أن اشتد ساعد الموجة الليبرالية فصرح عرابيها في المنطقة بأن الديمقراطية غربية الجذور ويجب علينا أن ننسف البنايات العتيقة (يعني التراث الإسلامي) كما سماها د. كمال عبد اللطيف لنحل محلها المنتجات الغربية والعجيب أنهم يصرون على تبيئة المفاهيم وعلى تحويرها لتناسبنا وتناسب واقعنا وتاريخنا ولكن هذه التبيئة وهذا التحوير لا ينبغى أن يكون إلا بالآليات والمناهج والنظريات الغربية (صبه أحقنه لبن) وهذا مثل عامي يعني أن اللبن سواءً صببته أم حقنته فهو لن يصير شيئاً آخر عصير فراولة مثلاً، بل سيظل لبناً..! والأعجب أن الإسلاميين اليوم يرددون وينادون بالديمقراطية بدون هذا اللف والدوران، بل ينادون بها كما هي في الغرب ولكن بشروط إسلامية تتناقض ومنادتهم وترديدهم للديمقراطية وهم أشد الناس وهما وتخبيصاً في التبشير والمناداة بالديمقراطية. [email protected]