في المشروع النقدي الجديد للاستاذ الدكتور عبدالله الغذامي والذي وسمه (بالنقد الثقافي) وأفصح عن محتواه باقتضاب بجملة الخصوصية لتكون (قراءة في الانساق الثقافية العربية)، وتأمل (عميق) لآثار تلك الأنساق التي تأتي عادة في الشعر بوصفه ديوان العرب,, وليقف الناقد الغذامي في هذا السياق النقدي على حقيقة الهوة التي حدثت نتيجة لابتعاد الشعر عن جمالياته، والشعرية عن نصوصيتها السائدة,, تلك التي تقدم للطارىء نموذجي اللذة والفائدة ليصل ومن خلال هذه الدراسة التي تعتني بالوضوح، وتهتم بالوعي الى جملة من المفاهيم التي تتعلق باللغة الأدبية بوصفها أداة فاعلة شديدة الارتباط بذات القارىء ومؤثرة في ثقافته ووعيه. ويوجه الدكتور الغذامي في كتابه الجديد سهام نقده الى (النقد الأدبي) إذ يراه غير مؤهل لكشف هذا الخلل الذي وقع فيه المنجز الشعري بشكل عام,, وإن كان الشعر العربي تحديداً هو المعني بهذا المأزق,, والأزمة التي يرى (المؤلف) أنها أفسدت المنظر العام للشعر منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث,, ويخص في هذا السياق طروحات المتنبي، وقباني، وادونيس, بوصفها نماذج يرى أنها (الجميل الشعري/ القبح الثقافي). ويرى الدكتور الغذامي أن (النقد الأدبي) بحاجة الى (النقد الثقافي) لكي يهدم كيانه الهش ويبني على أنقاضه (خطاباً) يكشف مضامين هذا الشعر وأنساقه,, ليبتعد هذا المنهج وبشكل واضح عن اقتفاء حساسية القراءة الجمالية المتبعة والتي يرى أنها تبرر وجوده المادي، وتسويقه الآني للمتلقي باعتباره أداة للنوال,, وهرولة نحو (الرجعية) الأدبية التي أضحت غير مستساغة في ظل الوعي الحاد للنقد الثقافي الضافي والشامل الذي يحقق في الانساق والخلفيات التي جاء بها الشعر بوصفه ديوان العرب المتحدث باسم حكمائهم، ومفوهيهم من الشعراء، والمتشاعرين، والنظامين، والماسحين لأحذية (الذوات) باسم الالهام,, والزجل الرباني الخارق,, حتى أصبحت صورة الشعر حاكما يُمدح، وشاعراً ينبح، ومالا يهدر,, ليتواصل المشهد على هذا النحو المأساوي الفاجع لحالة الابداع الذي ينتهك من قبل أعدائه. الأدبية,, تحولات النسق: ولأدبية الأدب حضور قوي في هذه الدراسة إذ يؤكد المؤلف على ان هذه الرؤية النظرية للادب هي الشغل الشاغل للنقاد منذ قرون,, ليذكر في الفصل الأول بأنه عني مع غيره برحلة (النص) الأدبي من أمثال ريتشار دز، ورولان بارت، وبلذاك وآخرين اسهموا في نمو ذاكرة المصطلح لتشمل منعرجات عدة تجسد عمق التحول في مفهوم (الأدبي) من قبل هؤلاء، ومن خلال طروحاتهم التي عرفت بنقد الحداثة والبنيوية، وما بعدهما,, لتصبح هذه الرؤية من وجهة نظر المؤلف قاصرة عن فهم حقيقة (الجمالي) في ذهن المتلقي الذي يعد هو النسق الأقرب الى الفهم,, ذلك الذي كشفته المؤسسة الثقافية التي اخذت دور الخطاب النقدي الا أنها لم تفعل ما يراه (الدكتور الغذامي) مناسباً لخدمة الذائقة الحضارية للأمة. وتؤكد الدراسة على ان (ذاكرة المصطلح) هي المراجعة النقدية الذاتية لأدبية الأدب تلك التي تحتاج الى اعادة قراءة وتنظير واقعي لا يلغي ذائقة الاستهلاك اليومي للثقافة، والأدب,, الا انه يشدد على أن يكون هذا التنظير محمولاً على السؤال النقدي الواعي الذي يتلافى العيوب، والتسطيحات التي ترشدنا اليها إجابات هذه الاسئلة. التصور الرسمي للأدب: ويورد الناقد الدكتور عبدالله الغذامي مقارنة حقيقية بين صورتي الخطاب الرسمي وغير الرسمي للأدب),, مستهلاً هذا الفصل من الدراسة بمقاربة بين ما يحمله هذا المعنى في كتابي (ألف ليلة وليلة) و(كليلة ودمنة) باعتبار أن الخطاب البلاغي للكتاب الأول ضرب من السفه. وهذه مقولة تجسدها الرؤية المتعالية للسلطة الثقافية التي ترى ان هذا الكتاب إنما هو للضعفاء عقلاً,, للمرأة، والطفل مثلا,, فيما ترى هذه المؤسسة الرسمية التي تحكم الثقافة والمثقف ان كتاب (كليلة ودمنة) هو فتح معرفي ينطوي على الحكمة والعقل لأنه جاء ملمعاً بوجاهة المؤسسة التي تشير وبتصنيف (أخرق) الى أن هناك أدبا رسميا وآخر شعبيا. ويؤكد الناقد الغذامي على اهمية تحرير المصطلح النقدي من قيده المؤسساتي وذلك باتباع جملة من المشاريع الثقافية ذات الصبغة النقدية التي تحوِّر، وتعدل في ماهية هذا (المصطلح) من أجل المهمة الجديدة التي يرى انها ستحدث نقلة نوعية في فهم المصطلح النقدي الحقيقي، الذي يحتاج الى عدة عمليات إجرائية تتمثل في النقلات النوعية للنقد، والمفهوم (النسق)، والوظيفة والتطبيق,, (الكتاب ص 62). سقوط (الأنا),, صنيعة القصيدة: ويوضح الناقد الغذامي في سياق قراءته للأنساق المتجذرة في (الشعرية العربية) أن وراء هذا الجمال الأسر جملة من العيوب التي يرى أنها خطيرة والتي تتجسد في صناعة (الأنا) الطاغية والتي درجت الى المشهد التذوقي باعتبارها صنيعة القصيدة وقائلها,, تلك التي تجسد شخصية (الفحل) الذي لا يباري لتجعل منه صورة نمطية للشخصية العربية التي صاغها الشعر صياغة (سلبية/طبقية), ليؤكد في هذا السياق انها خلقت أنماطاً سلوكية غير سوية,, لكنها لم تتخل عن بريقها الاسر، والمدغدق للمشاعر ليجد القارىء لهذا الكتاب أن (الدارس) لهذه الانساق معني بصورة الشعر التي انقسمت من وجهة نظره الى قسمين متناقضين؛ إحداهما تعلية وتمجيد (الممدوح) والاخرى تزهد فيه وتقلل من شأنه,, لتتجسد هذه النمطية المتناقضة التي يقف على شيء من واقعيتها,, (الكتاب ص 95). المادح، المال، الممدوح,, حفنة أبيات: والمتأمل في صفحات هذا الكتاب,, يرى أن الناقد الغذامي ناصب (الشعر العداء),, ودفع بكل رؤاه الى المشهد المتجرد من هذا الخطاب الانساني الذي اعتبره (أنا) سلاحاً ذا حدين لا أقوى أن اجرده من مضامينه الانسانية القوية,, ولا أنفي عنه صفة (الكذب) والادعاء وتلميع أحذية الممدوح لمجرد طلب التقرب والنوال. فالدراسة تشير الى نمو ظاهرة تزييف الخطاب الثقافي وصناعة أنماط (فحولية) قد تكون وهمية لا ترقى الى مكانة هذا الخطاب الشعري الذي زيفه المادح من أجل حفنة من المال,, فقد تعهدها في هذا السياق (الخارج عن أعراف الثقافة) شاعران هما النابغة والأعشى,, إذ يصف هذا (الخطاب) الشعري وفق هذه المعطيات بأنه صار وسيلة للتكسب والارتزاق (الكتاب ص 148), حتى يقف بنا (الباحث) عند صورة (الصمت) بوصفه اختراعاً ثقافياً يحدد وظيفة الكلام,, والأهداف المرجوة منه. ويستطرد الدكتور عبدالله الغذامي في سبر أغوار اللغة ليؤكد رغبته الشديدة في الوصول الى حاجة ملحة الى (الفرز الثقافي) لكل ما هو مسلم به من رؤى حول الشعر، والنثر التي تؤخذ بوصفها أداة للقائل الذكي والذي يتمتع بالحيلة لكي يمرر خطابه (العبثي) دون ملاحظة من الرقيب الثقافي المؤسساتي,,؟ وينتج من هذا الاستطراد ان الانساق الثقافية تأخذ شكل الصراع المستمر إذ يؤكد للقارىء في الفصل الأخير من الكتاب تهشيم الانساق بعضها لبعض,, ويؤكد ان (القراءة) لهذه الانساق والاستقبال له دور مهم وخطير في ترسيخ النسق,, مستشهداً بالعديد من الممارسات الشعرية لدى (نزار قباني) والتي يرى أنها تجسد نموذجه الفحولي الشعري ليصبح هذا النسق منافياً لجوهر الابداع الشعري بل انه يؤكد على ان هذا النوع من الشعر قد خلق (فحلاً طاغية) صنعته القصيدة,, وحاجتنا كقراء لهذا (الكذب) الجمالي الذي ننساق مع نشوته البلاغية، وهوس الجماليات حتى تصبح حجاباً يغطي العيوب ويعشي التبصُّر,, حتى نرى (الجميل الشعري/ القبيح الثقافي) في بعض المشاهد الشعرية,, (الاستنتاج للغذامي، والرأي له,,) (الكتاب ص 265). ليعذرني القارىء الكريم انني لم أف هذا الكتاب المميز حقه من التأمل، والاستنباط المناسب,, فالناقد عبدالله الغذامي لا يُعرَّف,, ورؤاه في هذه (الانساق)، وغيرها من الطروحات السابقة هي عين السؤال، ومدى الدهشة,, هذه مداخلة لا أصنع بها فحلاً,, ولا أكشف عن أي نسق سوى نسق الولع بانجاز كهذا. إشارة: * النقد الثقافي, (نقد). * د, عبدالله الغذامي.