في ظهيرة يوم السبت 26 رجب 1433ه - 16 يونيو 2012م اتصل بي الأخ سعد بن ثنيان وقال لي وهو يبكي: أعظم الله أجرك في الأمير نايف. ولقد أصابني بعد أن أغلقت سماعة الهاتف لحظات من الذهول. فقد نزل علي هذا الخبر كالصاعقة. وهو خبر ليتني لم أسمعه أبداً. ولقد مرَّ بي بعد سماعي للخبر شريط حافل من الذكريات مع أبي سعود استعرضت فيه ما كان بيننا من حوادث وحوارات وكأنها لم تكن إلا بالأمس القريب. منذ ما يقارب الشهر الآن وأنا أحاول أن أرثيك يا نايف. ولكني كلما حاولت الكتابة تخنقني العبرات. فكيف يمكن أن أختصر علاقة دامت لأكثر من واحد وسبعين عاماً في بضعة أسطر. وأنا لست في العادة ممن يجود بدمعه ولكن عظم المصاب بعث في نفسي الشجون، كما قال الشاعر: شكوتُ وما الشكوى لمثليَ عادة ولكن تفيضُ العينُ عند امتلائها يانايف إنك حي لم تمت سيبقى ذكراك موجوداً ما مات من سكن القلوب وسيبقى ذكراه موجوداً. لقد كان نايف منذ شبابه محباً للبر والمقناص، ومن المعروف أن هذه من صفات الفرسان. وبالرغم من دخول الحياة المدنية للمملكة، إلا أنه رحمه الله لم يتخل عن حبه لحياة البادية والصيد. حتى إن مزرعته في المستظلة خالية من البنيان ولا تكاد تجد فيها إلا بيوت الشعر والخيام والصوالين المتحركة. ولا شك بأن ولعه بالصيد أكسبه القدرة على الهدوء والصبر: وهما صفتان ظاهرتان بشكل واضح في شخصية سموه - رحمه الله-. فالصبر والهدوء من أهم ما ساعده على تحقيق الإنجازات في حياته. فقد كان عندما يلقى الناس ينصت بهدوء ويصبر مهما طال حديث محدثه ويصدق فيه قول الشاعر حسين بستانة في قصيدته التي ألقاها أمام الملك فيصل - رحمه الله- في حج العام 1386ه: يصغي إليك إذا جد الحديث متواضعاً ويلقي إليك السمع وهو به أدرى ويشهد كل من عرف نايف بحكمته ورجاحة رأيه، وهذا أمر يتحقق في الغالب لكل من اتصف بالحلم والأناة. فمن يصغي للناس بهدوء يستطيع أن يجمع كل الحقائق فيكون رأيه وقراره صحيحاً وحكيماً. وقديماً قالوا: «لا يجب أن تقول كل ما تعرف.. ولكن يجب أن تعرف كل ما تقول». وهذا تماماً منهج نايف - رحمه الله- في الحديث؛ فهو لا يتكلم إلا بما يعرف حقاً ويبتعد كل البعد عن الهذر الذي لا طائل منه أو منفعة. وقد رأى والده الملك عبد العزيز - رحمه الله- (وهو صاحب النظر النافذ في الرجال) علامات النجابة هذه على ولده، فعيَّنه وكيلاً لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان - رحمه الله- لما كان أميراً للرياض وهو لم يتجاوز العشرين من عمره, ثم بعد أن استقال الأمير سلطان - رحمه الله- أمر الملك عبد العزيز طيَّب الله ثراه أن يعيّن الأمير نايف أميراً للرياض. ولعل أكثر ما يميز شخصيته - رحمه الله- قدرته العجيبة على الجمع بين اللين والشدة. وهذا أمر لا يمنحه الله إلا للقليل من الناس. فالشدة في موضع اللين خطأ، واللين في موضع الشدة خطأ. ولكن الموفّق هو من يضع اللين في موضعه والشدة في موضعها. وهكذا كان - رحمه الله-. إذا كان يجابه أمراً يحتاج للقوة تجده أسداً هصوراً، وإذا كان في أمر يحتاج للين تجده سهلاً يسيراً. لقد قام نايف بالعمل في الشأن العام لسنوات طويلة، فحقق إنجازات جبارة من حيث العدد والنوعية. كان آخرها احتواء الفئة التي ضلت من أبناء الوطن فيما عرف بحرب الإرهاب، والتي كان من الممكن أن تحدث شرخاً كبيراً في المجتمع لولا الحكمة التي عالج بها نايف - رحمه الله- هذه الفتنة بحلمه وهدوئه واستخدامه الشدة في محلّها واللين في محلّه. ولولا الله، ثم حكمة الأمير نايف - رحمه الله- لكان لهذه الفتنة من الآثار المدمرة ما يصعب إصلاحه. ففي زمن الفتن تنزل بالأمم الكوارث لأقل الأخطاء، ولا يمكن أن يعالجها إلا الرجل الحكيم المكيث.. كما قال الشاعر: أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام فإن النار بالعودين تذكو وإن الحرب أولها كلام فإن لم يطفِها عقلاء قومي يكون وقودها جثث وهام وقد كان نايف - رحمه الله- هو الرجل الحكيم المكيث الذي استطاع أن يقود الوطن إلى بر الأمان، وأن يؤسس للمعايير اللازمة لكي يصالح المجتمع نفسه ويتجنب هذه الفتنة السوداء. وكان همه أن يتعافى المجتمع من هذه الآفة، ويشفق على الشباب الذي غرّر به ويتمنى أن يعودوا إلى رشدهم. مثاله في ذلك قول الشاعر: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن عظمت منه علي الجرائم وكان يقول إن الفكر يجب أن يحارب بالفكر بعيداً عن العنف والقوة. ويجب أن ننظر إلى أسباب السلوك المنحرف لنقوم بتقويمه بما ينفع الشباب ويردهم إلى الصواب. وهذه في الحقيقة كلمات تصدر عن أب محب مشفق على أبنائه. وهذا هو النهج الذي يجب أن يلتزمه كل مسؤول يدير مصالح الأمة. وهذا الحب وهذه الشفقة هي التي كانت تجعله يحث منسوبي وزارة الداخلية عندما يمسكون بأحد الشباب المدمنين على المخدرات، أن يترفقوا بوالديه عند إخبارهم بالأمر ولا يفجعوهم بالخبر. وهذا أصدق دليل على حبه للمواطنين ورحمته بهم. وقد نجح بحلمه وحبه الحقيقي لأبناء الوطن في ابتكار ما عرف ببرنامج المناصحة الذي نجح في رجوع الكثير من شباب الأمة إلى رشدهم وعادوا ليكونوا عناصر بناء بدلاً من أن يكونوا عناصر هدم. وقد حقق هذا الأسلوب الحكيم في معالجة الأزمة نجاحاً باهراً اعترف به العدو قبل الصديق وقامت العديد من دول العالم بإرسال وفودها للمملكة للاطلاع على هذا البرنامج المبتكر للاستفادة منه في دولها. ولعل أكثر ما يذكره المرء عن عمل نايف هو تفانيه في خدمة الناس وسهره الليالي الطويلة في إنهاء معاملاتهم. وكثيراً ما كان يتأخر عن إنجاز أموره الخاصة وكان يقول: أمورنا الخاصة ننهيها بعد أن ننهي أمور الناس. لقد حاز نايف بسبب هذه الصفات العظيمة حب واحترام كل من رآه وزرع في قلوبهم هيبة متميزة ووقار، وهو ما حدا بوزراء الداخلية العرب أن ينتخبوه رئيساً فخرياً لمجلس وزراء الداخلية العرب، وهو منصب غير مدرج في البروتوكولات، ولكنه صنع لأجل نايف. وإن أنسى من صفات نايف فلا أنسى وده ووفاءه. فلقد كان يتقلب بالمناصب ويرتقي بالمراتب ولكن وده أو معاملته لم يتغيرا معي أو مع أحد أبداً. وكان وده ووفاؤه عفوياً مجبولة عليه نفسه وهذا من كمال الود والوفاء. كما يقول الشافعي: إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة فلا خير في ود يجيء تكلفا وفي هذه المناسبة، وأنت ترثي سمو الأمير نايف - رحمه الله تعالى- يصيبك الخوف من أن يترك غيابه فراغاً في إدارة الدولة، فتأتيك قرارات خادم الحرمين الشريفين الحكيمة مسرعة في تسليم الراية لأهلها، فها هو أمره الكريم بتعيين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان ولياً للعهد ليطمئن النفس بأن القافلة التي أسسها الملك عبد العزيز ستتابع المسيرة بنفس القوة والنجاح بإذن الله تعالى. والأمر كما قال الشاعر مهدي العبار العنزي: حنا عوضنا بأخو سلمان سلمان وأحمد وكل إخوان صقر العروبة فالأمير سلمان كان رفيق درب الأمير نايف لسنوات طويلة. وقد سبق للأمير سلمان أن استلم راية إمارة الرياض من أخيه الأمير نايف - رحمه الله- وكان من خلال هذا المنصب يشارك الأمير نايف نفس المسؤوليات ويشاركه نفس الرؤية ونفس الإخلاص والتفاني لهذا الوطن. وهو يستشعر حجم المسؤولية التي ألقيت على عاتقه، ويقول لقد كان الأمير سلطان والأمير نايف قدوة لي. والأمير سلمان له سجل حافل بالإنجازات الكبيرة التي تجعله الأنسب لشغل هذا المنصب المهم في هذه الفترة الحساسة من الزمن. فسلمان لديه رصيد كبير في القيادة والإدارة وبعد النظر وقدرة عجيبة على بعث الروح الإيجابية للعمل فيمن حوله تجعله يحقق المعجزات في وقت قصير. أضف إلى ذلك حرصه الشديد على الإنجاز. فهو يتابع الأمور الهامة بنفسه وبشكل حثيث حتى يتأكد من إنجازها. وله قبل ذلك وبعده رصيد كبير من الحب والمودة لدى عموم المواطنين في المملكة. فقد بادلهم على مدى سنوات طويلة مشاعر الفرح والحزن. فالكل ينظر إلى سلمان على أنه أب أو أخ أكبر، وهو يتابع أمر الناس فيعزي المصاب ويبارك في الأفراح وكأنه مع الناس على مدار الساعة لا يشغله عن التواصل معهم مرض ولا سفر. وتعيين خادم الحرمين الشريفين لصاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز ليكون وزيراً للداخلية ينم كذلك عن حكمة خادم الحرمين ودرايته العميقة بمعادن الرجال. فالأمير أحمد كانت له يوم أن كان نائباً لإمارة مكة منذ ما يزيد عن أربعين عاماً سمعة عطرة. فاحت في فضاء مكةالمكرمة مما أهله إلى تولي منصب نائب وزير الداخلية في وقت قصير ولكنه أثبت أنه أهل لهذه الثقة، وكان عضداً حقيقياً وشريكاً فاعلاً للأمير نايف في مهماته الجسام في وزارة الداخلية لأكثر من ثلاثين عاماً. ولسمو الأمير أحمد قبول واسع بين عموم المواطنين لما يمتلكه من خبرة طويلة في هذا المجال وما يتمتع به من نزاهة وتواضع ودماثة خلق وحب للخير، وسجله في خدمة الوطن حافل بالكثير من الإنجازات التي تبعث في النفس الطمأنينة بأن أمن الوطن ما زال بأيد أمينة بإذن الله تعالى. غفر الله لك يا نايف ورحمك وتقبّلك في الصالحين. ولئن غابت شمسك عن هذه الأرض، فإنها في صدري أبداً لن تغيب. ولسان الحال يقول: فإن كانت الأجسامُ منا تباعدت فإن المدى بين القلوب قريبُ وأتقدم بخالص العزاء والمواساة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز ولإخوانهما وإخوانه وكافة أفراد الأسرة المالكة الكريمة. وإلى أبنائه: صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف وصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن نايف وصاحب السمو الملكي الأمير فهد بن نايف. وإلى بناته: صاحبة السمو الملكي الأميرة جواهر بنت نايف وصاحبة السمو الملكي الأميرة نورة بنت نايف وصاحبة السمو الملكي الأميرة سارة بنت نايف وصاحبة السمو الملكي الأميرة نوف بنت نايف وصاحبة السمو الملكي الأميرة مشاعل بنت نايف وصاحبة السمو الملكي الأميرة هيفاء بنت نايف. وإلى عموم أفراد الشعب السعودي الكريم والأمة العربية والإسلامية في فقيد الوطن.