ما أحاول قوله هنا رأي شخصي ونظرة استعادية لتجربة حياة عمرها حوالي سبعة عقود. كونها تجربة شخصيّة لا يلغي أنها تعكس نموذجًا نمطيًا لأهم مواصفات المسيرة الاجتماعية العامَّة في السبعين عامًا الماضية. أعتقد أن جيل الكبار، وأقصد كل من تخطوا عمريًا الخمسين عامًا، حقق نجاحات كثيرة، لكن أغلبها يخدم الحاضر، أي محاولة التمسك بما فيه وعليه، لكنه أخفق في أمور كثيرة أيضًا خصوصًا فيما يخدم الجيل التالي بعد أن يخلي هذا الجيل الحاضر المكان ويسلِّمه للأجيال اللاحقة. جيل الكبار حسب التوصيف العمري السابق نجح في الالتفاف حول الدَّولة كقاعدة أساسية وشرعية لوطن مشترك، ونجح في المناورة بين الصراعات الدولية لتجنب التفتيت وصراع الهويّات الإقليمية المجاورة ونجح في نقل طموحاته في التقدم والتطوّر من جيل إلى جيل في العقود الخمسة الأولى، لكنه قصر وربما فشل في هذه المهمة في الجيلين أو الثلاثة الأخيرة التي هي دون سن الثلاثين، والأسباب يعرفها الجميع حتَّى لو أنكرها البعض. نجح جيل الكبار في الاحتفاظ بالرغبة والأمل في انتظار الخطوة النوعية لتأمين الانتقال من الاقتصاد الاستهلاكي الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي العلمي وما زال ينتظر ويتشبث بهذا الأمل. تأخر هذه النقلة النوعية بالذات حتَّى الآن من المحتمل أن يلغي كل النجاحات السابقة، لأنّ الانتقال من نمط الاستهلاك الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي هو الطريق الوحيد لتأمين مستقبل الأجيال القادمة. إن لم تجد هذه الأجيال ما يحقِّق تطلعاتها المعيشية المشروعة سوف تنقلب على البيت وساكنيه، اتركوا عنكم الآمال الكاذبة والاختباء وراء الخصوصيات المزعومة. في نفس السياق أعتقد أن جيل الكبار لم ينجح أو لنقل فشل في إيجاد التعايش العادل بين الاختلافات المذهبية الموجودة منذ مئات السنين داخل تركيبته السكانية، وفشل في تذويب النعرات القبلية والطبقية. واقع الحال يقول: إن تلك الاختلافات وهذه النعرات تعيش حاليًّا مرحلة انتعاش وازدهار وتستخدم «وياللسخرية» أحدث منجزات العلم في التواصل المعلوماتي لترسيخها وتأجيجها. فشل جيل الكبار أيضًا في الانتقال النوعي لمؤسساته ومناهجه التَّعليمية. هذه المؤسسات والمناهج استمرَّت في تركيزها على الماضي دون القدرة على إنتاج المستقبل. هذا هو الفشل المؤسس لكل أنواع الإخفاقات الأخرى لأنّها تفرعت منه وترتبت عليه. لا بد من الاعتراف من دون تردد بأن الفشل الكبير في استغلال المداخيل النفطية الهائلة لبناء قاعدة وطنية عمالية وفنية وبحثية وصناعية هو التجسيد الأكبر والأوضح لانفصام الحاضر عن المستقبل. ترتب على هذا الفشل الاعتماد الكامل على العمالة المستوردة التي دخلت في كلِّ مسام الحياة الاجتماعية والاقتصادية واستطاعت أن تتشابك وتنسجم مع أصحاب رؤوس الأموال والعمل السعوديين على شكل أخطبوط طفيلي يأكل ولا يشبع حتَّى يجهز على الوطن بكامله. لهذا السبب بالأساس أصبح سهلاً على الفهم رغم كونه عصيًا على المنطق أن تتفاقم بطالة الشباب وتنغلق الطرق أمام حقوقهم المشروعة في العمل والاستقرار المادي والسكن والزواج والعلاج، دون الاضطرار إلى الالتفافات الاحتيالية والوساطات والاستدانات بفوائد تكسر الظهر يحللها لهم مشرعون انتهازيون نفعيون. العالم كلّه، على الأقل الجزء الحي منه، يتقدم بسرعات تخطف الأنفاس نحو المستقبل. إحلال التَّعليم الثوري الاقتحامي مكان التَّعليم النمطي الوراثي، وإشراك المراحل العمرية الشابة مبكرًا في مسؤوليات التنمية والإدارة، وإيجاد وسائل بديلة أكثر توفرًا لمصادر الطاقة، وربط الاستهلاك الوطني في كلِّ شيء بالحاجة المباشرة لكل الناس وبقدر منطقي وكافٍ من العدالة الاجتماعية. هذه الأشياء مع غيرها من المتطلبات الوطنيّة الكثيرة أصبحت من هموم المستقبل التي تتسابق الدول لتأمينها. هنا يصبح السؤال أكثر من واجب: لماذا هذا الاهتمام العالمي المتزامن بالمستقبل؟. السبب هو التحسب والاستعداد لثورات الفقراء ضد الأغنياء والشباب العاطل ضد الأثرياء والفاسدين والمفسدين، واحتجاجات من يكادون لا يملكون شيئًا ضد من يكادون يملكون كل شيء. تسري في العالم كلّه حاليًّا روح جديدة يحركها الشباب الذي أصبح يعرف كل الحقائق الاجتماعية على مستوى العالم كلّه. هذه الروح المدججة بالمعلومات وبقدرات التواصل اللا محدودة لم تعد تستجيب لمواعظ ونصائح الشيوخ والكبار، لأنّها تعلم أن كلامهم لا يقدم تنمية مستدامة تضمن لهم السكن والزواج والعلاج والعيش الكريم. لقد تغيَّر العالم في الخمس سنوات الأخيرة بشكل دراماتيكي وأصبح الكبار يواجهون أجيالاً شابةً تطرح أوضاعها المعيشية والاجتماعية للتحليل العقلي والتجربة والمقارنة. باختصار: شبابنا أصبح يعرف أكثر منّا نحن جيل الكبار، وبدأ يرفع صوته مطالبًا بحقوقه في الحياة. الويل لنا إن حاولنا الوقوف بينه وبين تطلعاته المشروعة، عندئذ سوف تغرق السفينة مع ركابها. - فيينا