ترهل الشخص يعني لغة زاد لحمه وارتخى، ومن نتائج الترهل المباشرة ابتعاد الأجزاء عن بعضها بطبقات عازلة من الأنسجة الإضافية مما يجعلها صعبة على الدعك والحك والفرك فتتكاثر فيها الجراثيم والآفات. ما يحدث في جسم الكائن الحي من آثار الترهل يحدث أيضا في التجمعات البشرية إذا تضخمت واتسعت لدرجة تجعل الخدمات المتوفرة قاصرة عن تغطية متطلباتها. تترهل المدن عندما تكتظ بالسكان القادمين إليها من الداخل والخارج للبحث عن مصادر العيش التي شحت في أماكنهم الأصلية، مما يجعل خدمات المياه والكهرباء والتعليم والمواصلات والعلاج والضبط الأمني مشدودة إلى أقصى الحدود. مكسيكو سيتي وساو باولو والقاهرة وبعض مدننا الرئيسية بشكل أخف مجرد أمثلة قليلة على تجمعات بشرية ضربها الترهل فانتشرت فيها العشوائيات والقمائم وطفح المجاري وأعداد المتسولين وأطفال الشوارع. مثل هذه الظروف تشكل بيئات مثالية لانتشار الجرائم والمخدرات والسرقات. مثلما أن كثرة الأشجار في الغابة تحد من دخول ضوء الشمس إليها، كذلك يحد ترهل التجمعات البشرية من كفاءة الخدمات الأمنية والصحية والتموينية المخصصة لها مهما كانت الجهود لتوفيرها كبيرة ومكلفة، لأنها في النهاية سوف تصاب بأعراض التسيب والإجهاد والتفسخ الداخلي. مثلما يتجمع العرق والإفرازات الجلدية ونفايات الخلايا الميتة والجراثيم والفطريات بين ثنايا الأنسجة المترهلة، كذلك تتكاثر المشاكل والأوبئة الاجتماعية والأخلاقية في أحياء وأزقة وعشوائيات المدن المترهلة العصية على الرقابة بسبب تعرجاتها ومنعطفاتها وضيق مسالكها وتجمع أكوام المخلفات وتسربات المياه الآسنة فيها ومن حولها. في ثنايا الترهلات الجسدية للكائن الحي تتكاثر الكائنات المجهرية بشكل تصاعدي وتهاجم من أجل حصتها في الغذاء وإمكانيات التناسل والحيز الكافي، وكل ذلك على حساب الكائن المستضيف المترهل، مما يجعلها في لحظة ما تهديدا جديا وخطيرا قد يفضي بذلك الكائن إلى الموت. إضافة إلى ذلك، يحدث التحاسد بين الخلايا الأصلية للجسد المترهل فيما بينها على إمدادات الطاقة والأكسجين والفيتامينات والمعادن الحيوية مما يؤدي إلى اختناق بعضها ببعض نتيجة الزحمة في المكان والتنافس على اللقمة فيحصل نوع من التدمير الذاتي يضاف إلى أفعال الكائنات المجهرية الدقيقة التي سبق ذكرها. الوضع كله يصبح أشد دراماتيكية عندما تكون الإمكانيات التموينية والإدارية والتنظيمية من الأساس حديثة عهد في التعامل بمتطلبات الازدحام السكاني السريع وغير المتجانس في المفاهيم والعادات والأعراف وأساليب العيش. العمل المضاد للترهل في عالم الطب هو القيام بعمليات الشد واستئصال الارتخاءات وتوصيل الأوعية الدموية وتنظيف المكان بالغسل والتعقيم. مثل هذا التدخل غير وارد في الترهلات السكانية لأنه غير جائز شرعا وعرفا، ولكن له بدائل ناجعة طبقت ونجحت في بلدان كثيرة. من هذه البدائل تثبيت السكان المحليين في أماكنهم الأصلية بضخ الأموال وإيجاد البنى التحتية ذات الكفاءة العالية والتوسع في البنى الاقتصادية والعلمية والصحية والأمنية هناك حيث يحتاجها الناس، فلا يعودون مضطرين للهجرة إلى المدن الكبرى. لكن هذه العملية التصحيحية لن تكون فاعلة إذا تم نقل القوى العاملة الوافدة بتناقضاتها الاجتماعية والثقافية ومفاهيمها الأخلاقية من المدن الكبرى المترهلة إلى التجمعات الطرفية الأصغر المدعمة بوسائل الاكتفاء الذاتي. لا تكتمل عملية القضاء على الترهل الحضري وآفاته إلا بفرض ثقافة العمل الإنتاجي بسلطة القانون وربطه بالعائد المادي المجزي وتنظيف الأدمغة من المفاهيم التي تتغذى وتزدهر على اقتصاد الاستحواذ والكسب السريع والتحكم في الأسعار والأرزاق والأجور على حساب الشباب والمستقبل. سؤال في الآخر: كم نوفر من الأموال والمياه والكهرباء والغذاء والدواء لو فرضنا بقوة القانون على رجال الأعمال توظيف وتدريب أبنائنا وبناتنا بمرتبات مجزية ثم استغنينا عن نصف العمالة الأجنبية مبدئيا مقابل ذلك؟. أول المكاسب سوف تكون الاستغناء عن برنامج حافز الكسيح الذي لا مثيل له إلا في الاقتصادات الريعية اللاإنتاجية.