قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف (بنت الأعشى) الطبعة 2001، الناشر دار غريب للطباعة والنشر - القاهرة. استطاع الدكتور عبدالقادر القط بفضل مقالاته ومحاضراته ودراساته النقدية العميقة وأحاديثه الإذاعية الواعية أن يهدي إلى ذلك التطور الخلاق الذي أخذ يجد على حركة الأدب الحديث منذ مطلع الستينات، ويضم هذا الكتاب بين دفتيه طائفة مختارة من التراث النقدي الضخم الذي يفخر به أدبنا العربي، هذا ما ألمح إليه الدكتور الفاضل: إبراهيم عبدالرحمن محمد في تقديمه للكتاب، وأشار إلى أن المتتبع لهذه الدراسات الكثيرة التي نشرها الدكتور عبدالقادر القط سواء في مقالاته النقدية أو في بحوثه الأدبية، يلاحظ أنها قد توزعت بين الأدب العربي القديم وبين الأدب الحديث سواء في مصر أو غيرها من أقطار العالم العربي الأخرى، وهذا التنوع يحل بين هذه الدراسات المختلفة وبين وحدة النظرة النقدية التي قصد إلى إبرازها والتدليل على صحتها، مما يجعل من هذه المقالات والدراسات على تباين تواريخ نشرها وتنوع الموضوعات والأعمال الأدبية التي عرضت لنقدها وتقويمها، كلاً واحداً يؤدي أوله إلى آخره، ويعبر في أشكال مختلفة وبوسائل عديدة عن قضية بعينها ظل الدكتور القط يلح عليها ويسعى إلى تحقيقها وهي أن الصلة الفنية متصلة بين القديم والجديد، وأن الظواهر الفنية لذلك يعدي بعضها بعضاً أو يقود بعضها إلى بعض، وأن الأدب ظاهرة حضارية وفنية في آن واحد، بمعنى أنه وسيلة جمالية للتعبير عن قضايا الحياة ومواقفها المختلفة. وعلى أساس من هذا المفهوم الحضاري للصلة بين القديم والجديد وبطبيعة النصوص الأدبية في أشكالها المختلفة تشكلت نظرة الدكتور القط إلى القصيدة والقصة، وتحدد منهجه في تفسيرها والنظر إلى القضايا والمشكلات التي تواجهها الحركة الأدبية الحديثة في مصر وغيرها من البلدان العربية الأخرى، ونستطيع أن نجد في مقالات هذا الكتاب وغيره من الكتب التي نشرها مثل هذا النص الذي يلخص فيه الدكتور القط تلخيصاً دقيقاً نظرته الحضارية تلك إلى الأدب في قوله: «إن التحليل الصحيح للنص الأدبي لا ينبغي أن يقتصر على مقوماته الداخلية وبنائه المركب وصوره الفنية، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى تقويم مضمونه وربطه ما أمكن بنفس قائله ومشكلات مجتمعه وعصره، وهكذا لا يكون الأدب مجرد متعة بيانية محضة، بل عاملاً فعالاً في تطور الحياة وإثراء فكر القارئ، ووجدانه على السواء والفن الجديد في أي عصر من العصور لا ينبع من عجز أصيل في الفن الذي سبقه، وإنما ينبع من مفهوم حضاري جديد للفن، ومن نظرة جديدة للفنان نحو الحياة والعلاقات الإنسانية تخالف نظرة الفن السابق المعاصر الذي كان يعبر عن روح حضارة مختلفة ثم فقد وظيفته بانتهاء تلك الحضارة. ومن الملاحظ أن الدكتور القط لم يتخل في أي من المقالات والدراسات التي نشرها على مدى خمسة وعشرين عاماً عن هذه النظرة الحضارية إلى الفن عامة والأدب خاصة، ومن ثم فإن أية محاولة لتنظير هذا التراث النقدي الذي يضمه هذا الكتاب ومناقشة القضايا الأدبية والفنية التي يثيرها لا تتأتى لدراسة إلا عن طريق بلورة هذه الصلة الوثيقة التي تربط بين هذه المقالات وغيرها من دراساته الأخرى، والكشف عن طبيعة هذا المنهج الذي التزم به صدر عنه في تقيم الأعمال الأدبية المختلفة التي عرض لها في هذه المقالات وهي محاولة شاقة لأنها تفرض على الدارس أن يدخل إلى فكر الدكتور القط الذي تنوعت عوالمه الثقافية والحضارية وانصهرت في بوتقة هذا العقل الواعي لتصبح شيئاً جديداً ومعقداً تعقداً فنياً وذوقياً، فيه من دقة الفكرة وبراعة العرض ورهافة الحس والوعي بخيوط التطور المتنوعة التي تتشابك في نسيج العمل الفني، ما يدق على القارئ العادي وما يحتاج إلى وعي بظروف الأدب العربي الحديث وقضايا تطوره المتعددة، ومعرفة عميقة بمصادره الأجنبية التي تأثر بها في بعض أعماله الأدبية، وعلى الرغم من هذه الصوبة فإنه لا مفر من المضي في هذه المحاولة من الكشف والتنظير إلى نهايتها، والدكتور القط كان حريصاً على تجريد العمل الأدبي الذي يحلله في قضايا عامة تتصل بطبيعة هذا الفن أو ذاك وصلته بقضية التطور الفني عامة، ثم يخلص إلى تحليله في ذاته والكشف عن رموزه وتقويمه تقويماً فنياً يبث من خلال تلك التوجيهات الأدبية التي كان يراها ضرورية لهداية الكتاب والشعراء إلى الصيغ الفنية المثلى. وفي دراسة الدكتور عبدالقادر القط لشعراء المقاومة تطرق إلى الشاعر محمود درويش وذكر أن الشاعر الملتزم يواجه بقضايا مصيرية كبرى، موقفاً دقيقاً يقتضيه أن يحقق توازناً معقولاً بين ما تتطلبه مواقف هذه القضية من حرارة في القول وحماسة في التعبير، ونبرة عالية في الإيقاع، وما يتطلبه الفن من عمق واعتماد على ما للألفاظ والصورة الشعرية من ظلال وقدرة على الإيحاء، وما يزيد هذه الدقة في الموقف ما بلغته وسائل الإعلام في هذا العصر من شأن وما تفرضه عليه طبيعته الجماهيرية من البحث عن الشعارات المعبرة والأقوال الباهرة الواضحة التي تستطيع أن تجمع الجماهير حول القضية، وتديم انشغالهم بها وحماستهم للدفاع عنها، وفي ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم كيف عرفت الجماهير العربية على اختلاف مستوياتها الثقافية شاعراً كالشابي ببيتيه الذائعين: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ومحمود درويش وطائفة من رفاقه في الأرض المحتلة من الشعراء الذين واجهوا هذا الموقف الدقيق في أكثر صوره تعقيداً وعسرة وقد أحس منذ البداية بطبيعة هذا الموقف وحاول أن يقيم ذلك التوازن المنشود بين الالتزام والفن معتذراً عن استجابته ذات النبرة العالية أحياناً بطبيعة القضية التي يلتزم الدفاع عنها، وما زال الشاعر ماضياً في رحلته القومية الفنية في ظروف قاسية كانت جديرة عند من هم أقل قدرة على الصمود أن يتصعد عن هذا الطريق الشاق الطويل، أو تنحرف بالشاعر إلى متاهات من الرؤى الغائمة، وهو لا ينسى في رحلته الفنية تلك أن يزاوج دائماً بين ارتباطه بقضيته القومية المحددة، والعوالم الإنسانية الكبيرة والتطلع الإنساني إلى الحرية والعدالة والجمال: هاتف يصرخ بي منفعلاً/ من بلادي أيها الابن تقحم هاتف يصرخ بي من أرضها/ مستغيثاً أيها النائي تقدم هاتف زلزل مني أضلعي/ فيه ذكرى فيه إصرار مصمم لا تحدث حسبُ نفسي أنها/ جذوة حمراء من نار جهنم لا تلمني أشعل الحقد دمي/ وجنيني في عروقي يتضخم لا تلمني إنها أرضي تبكي/ أأطيق الصمت والأم تألم ولا شك أن القارئ يلمس في هذه الأبيات كل سمات الشعر التقليدي في المجال القومي، من صخب الإيقاع والتكرار والاعتماد على النهي والطلب والاستفهام في عبارات متتالية متقاربة المضمون، ويسبق الأبيات في القصيد نفسها أبيات تصادف فيها التقليد الشعري الحديث الشائع في أشعارنا القومية. ومن طبيعة التجربة القومية ذات الإلحاح القوي الدائم على وجدان الشاعر أنها تفرض عليه طائفة من الألفاظ لها دلالات وإيحاءات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك التجربة، ولشاعرنا معجمه الشعري الواضح وألفاظه الأثيرة كالليل ومشتقاته ومرادفاته وأضداده وبخاصة الصباح والفجر والضحى والشمس، وكالجرح الذي لا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائد الديوان القومية: - جرحنا قد صار جرحاً سابح فيه الشفق - فتحوا الجرح وقالوا يقفل في بلادي، في بلاد الناس، في كل البلاد يسكت الجرح ولا يندمل آمن الجرح بمستقبله، أي شيء ماله مستقبل؟ - حدثوني واملأوا نفسي لظى حدثوني علَّ جرحي يتكلم - ونداء جرح معذب في الأرض لا يرضاه فني. - أوَليس جرحاً خالداً جرح الحزانى اللاجئين. - ويد مضرجة تدق الشمس حتى تفتحا - وتقبل البؤساء والجرح الأبيّ وتمسحا - ضمدت جرحي بالجراح. - وأخذت دربي للصباح - لا نوم للأحرار حتى يمسح الفجر الجراح.