لا شك أن الإعلام الثقافي المستنير اليوم في عصر الفضائيات والصورة العابرة للحدود باتا من أهم وسائل التأثير ومواجهة تحدي العولمة الجارف للخصوصيات الثقافية القومية لمختلف الشعوب والمجتمعات الحديثة، ولاسيما في عالمنا العربي الإسلامي الذي يملك من المقومات الحضارية الأصيلة ما يجعله مسؤولاً عن صناعة استراتيجية إعلامية ثقافية جديدة أصلها ثابت وفرعها في السماء. في هذا السياق المهم جاءت منذ فترة جدلية النقاش في أوساط عديدة من النخب العربية حول الدور المطلوب من القنوات الثقافية في عالم متغير يعج بالغزو الفكري والاستلاب الحضاري من طرف الغرب، بعد أن ارتفعت أصوات الكثير من المثقفين سابقاً هنا وهناك، مطالبة بإنشاء فضائيات ثقافية متخصصة خاصة في المملكة العربية السعودية، التي تتميز اليوم بمشهد ثقافي دائب الحركة والتنوع والعطاء، لا أجد مرآة إعلامية حقيقية عابرة للحدود والمسافات، وأكثر قدرة في التعبير عنه ونقله طازجاً وحيوياً للآخر، وخصوصاً في بقية الأقطار العربية أكثر من قناة «الثقافية»، رغم أنها لم تتجاوز حتى الآن سن الفطام. ومنذ انطلاقتها الأولى قبل عامين وقناة «الثقافية» السعودية تحاول جاهدة تصديق شهادة الميلاد في محيطها المحلي باعتبارها أولاً مكسباً مهماً للإخوة المثقفين في المملكة العربية السعودية، هذا البلد الكبير بتاريخه وحجمه الإقليمي والاستراتيجي في العالم، الذي يحتل مكانة خاصة في وجدان كل العرب والمسلمين باعتباره مهد اللغة العربية ومنطلق الوحي والرسالات السماوية الداعية للخير والتسامح والإيمان. وأستطيع القول في هذا المجال، رغم أنني من خارج الوسط الثقافي السعودي، إنني وجدت من خلال هذه القناة المتميزة الفرصة الحقيقية في التعرف عن كثب على إيقاع الحياة الثقافية الجميلة في هذا البلد العزيز؛ فأصبحت مشدوداً إليها متابعاً لها باستمرار ودون انقطاع منذ أكثر من عام تقريباً، بعد أن رأيت في برامجها الرائعة ورصدها الذي لا ينام في الليل والنهار لكل ألوان الطيف الثقافي السعودي صورة حية مشرقة عن الإبداع والتراث والفنون والآداب والتاريخ في بلاد نجد والحجاز، وأنا الذي أسكن بعيداً عن الخليج هناك في الضفة الأخرى على شاطئ المحيط، في بلاد المليون شاعر التي أصبح فيها جمهور كبير من محبي ومشاهدي قناة «الثقافية»، يأنسون إليها في كل حين رغم فارق التوقيت، وهم يتحلقون كباراً وصغاراً حول هذا السندباد الذي يعبر من مرسى إلى آخر، تاركاً رسالة حب وسلام في كل البيوت والقلوب، وتلك أعظم رسالة إنسانية للثقافة والفنون. وفي العقد الماضي قررت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الأليكسو» إنشاء قناة ثقافية عربية، يكون مقرها في مدينة الشارقة، لكن الحلم طال انتظاره في كل الأوساط العربية، ولم يتحقق حتى الآن، رغم ازدياد عدد القنوات العربية المختلفة وحتى الأجنبية الموجهة للعالم العربي، وحدها الثقافة بقيت تندب حظها العاثر في فضاء إعلامي مليء بالغث والسمين، ويعبر عن كل شيء سوى الهم الثقافي العربي من صنعاء إلى شنقيط. وإذا كنت هنا أتحدث أساساً عن رحلة قناة «الثقافية» السعودية ودورها الريادي في مجال تخصصها فلا بد أن أشير في هذا الإطار إلى دخولها على خط المنافسة الساخن مع قنوات ثقافية عربية مهمة أيضاً، خاصة قناة النيل الثقافية في مصر رغم أنها أقدم بكثير من قناة «الثقافية»؛ إذ مضى على انطلاقتها حتى الآن أكثر من اثني عشر عاماً، قدمت فيها حصاداً متنوعاً من العطاء في بلد عربي كبير؛ فكانت أيضاً بانوراما شاملة للساحة الثقافية المصرية والعربية، وهي تتأهب الآن لانطلاقة جديدة وقوية في هذا الاتجاه، بعد أن قررت وزارة الإعلام المصرية دعمها بإمكانات جديدة، وتغيير اسمها من قناة النيل الثقافية إلى قناة «إبداع»، وهو ما يعني إخراجها من لباسها المحلي نحو فضاءات أوسع للتفاعل والحوار مع الآخر. ورغم أنه قد لا يكون من الوارد مقارنة «الثقافية» مع قناة «النيل الثقافية»، بحكم الفارق الزمني الكبير على الأقل بين التجربتين؛ فالأولى ابنة اثني عشر ربيعاً والثانية ما زالت تحبو في سن الفطام، فإنه يجب في اعتقادي على قناة «الثقافية» - وهي الأوسع انتشاراً الآن - أن تركز أيضاً على البعد العربي من المشرق إلى المغرب في خطابها الإعلامي، بعد أن نجحت في تعريفنا عن قرب على تنوع الفضاء الثقافي في المملكة بكل تفاصيله وتجلياته، حتى أصبحنا نعرفه أكثر من أهله، وهي سانحة جميلة أن نطلع من خلال هذه القناة الفريدة من نوعها على تلك الكنوز الإبداعية المختلفة من شعراء وكتّاب وفنانين وكل ملامح المشهد الثقافي السعودي بصوره وفعالياته المهمة في المسرح والصناعات الحرفية والتراث والفكر، والتظاهرات الكبرى الموسمية كمهرجان الجنادرية ومعرض الرياض الدولي للكتاب وسوق عكاظ وبقية زخات المطر في وديان المعرفة. صحيح أن قناة «الثقافية» تقدم أيضاً إطلالات متعددة على المحيط الثقافي العربي من حولها، وأنها استضافت العديد من الأسماء العربية في مدارات مختلفة، إلا أن ذلك ما زال حتى الآن غيضاً من فيض؛ فبإمكان هذا السندباد أن يواصل رحلته الطويلة مثل ابن بطوطة، وأن لا يتوقف عند محطة دون أخرى، خاصة أن القناة معبّرة في توجهها العام عن هذا المفهوم الشامل للثقافة العربية، وانطلاقاً أيضاً من الخلفية التاريخية والمرجعية الدينية للمملكة كحاضنة للديار المقدسة التي تهفو إليها أفئدة الناس من كل حدب وصوب في موسم الحج كل عام، الذي هو أكبر دليل للوحدة الثقافية بين العرب والمسلمين، وهي الرسالة العالمية التي يجب أن تستشرف آفاقها الواسعة بلا حدود قناة «الثقافية» بوصفها صرحاً إعلامياً متميزاً يخدم أيضاً ثقافة السلم والحوار بين الأديان والثقافات انطلاقاً من تلك الأرض المباركة الطيبة. خلال مشاركتي الأخيرة في مهرجان الجنادرية هذا العام تعرفت أكثر على قناة «الثقافية» عن قرب، ولامست حيوية وحماس فريقها الإعلامي الشاب، الذي ضرب بأطنابه في مقر ضيوف المهرجان بفندق الماريوت، في نقل مباشر وتفاعل مستمر مع كل الأصداء والوجوه، وفي إحدى حلقات برنامج «الثقافة اليوم» المواكب لعرس الجنادرية الثقافي شاركت مع الكاتب المعروف في صحيفة «الحياة» جهاد الخازن في حوار مع الزميل عبد الرحمن السعد مقدم البرنامج حول إشكالية العلاقة بين المثقف العربي والسلطة، وكانت سهرة ممتعة على شاشة هذه القناة، جمعت بين آراء مختلفة من لبنان إلى موريتانيا، دون أن يفسد ذلك للود قضية. في اتجاه البُعد العربي لقناة» الثقافية» وترسيخه أكثر فأكثر ببرامج تسجيلية وتقارير ورسائل دورية من مختلف الأقطار العربية تكتمل جوانب اللوحة الكبرى لهذا المشروع الإعلامي الحضاري الطموح، الذي هو اليوم تعبير صادق عن الصورة الجميلة للمملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، تلك الصورة الرائعة في اعتزازها بالأصالة والتراث والإبداع الفكري والفني والإنساني، وهذا الدور المتميز للقناة الآن يعزز من الدبلوماسية الثقافية لبلد عربي كبير، يشكّل مركز ثقل اقتصادي وسياسي في الخريطة العربية والعالم مثل السعودية، وهو بلد يستطيع من خلال قناة «الثقافية» اليوم أن يحمل لكل أنحاء المعمورة رسالة مفادها أن الثقافة تجمع ولا تفرق، وأن التنوع الثقافي من خلال نافذة مفتوحة في زحمة فضائيات هذا العصر يمكن أن يكون شراع أمل جديد لتعزيز القيم الإنسانية المشتركة في نبذ العنف والتطرف، وإعطاء صورة حقيقية وناصعة أيضاً عن الثقافة العربية في الماضي والحاضر والمستقبل كذلك. فتحية إلى كل مهندسي هذا الحلم الجميل قناة «الثقافية»، الذي أصبح ضيفاً عزيزاً في كل مدائن العرب، وأخص بالذكر هنا الوزير المثقف والشاعر عبد العزيز خوجة، الذي ما إن ركب خيل الوزارة فيما يبدو حتى بدأ خياله الواسع يتمدد في الفضاء الرحب؛ لتشرق شمس «الثقافية» بمشكاة الفنون والإبداع والفكر راسمة فسيفساء التجلي والبوح في الشارع الثقافي الكبير. وتحية أخرى من بلاد شنقيط للمشرفين في الميدان على هذه القناة الثقافية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وفي مقدمتهم المدير العام للقناة الأستاذ محمد الماضي الذي حققت منذ توليه قيادة السفينة المزيد من الإبحار الجميل نحو المرافئ والجزر البعيدة في عالم الثقافة، وإلى كل الفرسان والجنود المجهولين نقول لهم جميعاً شكراً لأنكم جعلتم من «الثقافية» جزءاً من أثاث بيتنا الداخلي وإحساسنا الروحي العميق بالكون والحياة والإنسان. وشكراً لأنكم أنهيتم في فضائنا الإعلامي العربي زمن الوحشة والاغتراب الثقافي بمائدة من السماء نريدها أن تطعمنا من جوع وتؤمننا من خوف، أمام هذا الزمن الهارب من أصله على طبق من صحون الرياح، فإنها لا تجوع البطون ولكن تجوع العيون، وماذا يبقى للمرء من أحاسيس إذا أجدبت حقول الفكر وضنت ينابيع الفنون؟ شاعر وإعلامي موريتاني - المدير العام لمركز أمجاد للثقافة والإعلام في موريتانيا