عندما كنت شاباً مؤهلاً بشهادة اختصاص في الطب كانت الدولة تدفع لأمثالي الراتب الأصلي مضافاً إليه ثمانون بالمائة كبدل ممارسة إكلينيكية وفي آخر العام مائة ألف ريال بدل سكن. كنا نشعر حينذاك بالأمان المادي، ولذلك عملنا بجد من الصباح الباكر حتى أواخر المساء وغطينا مناوبات الليل وأسس جيلنا لما ترونه اليوم من مؤسسات طبية عريقة. المستشفيات الجامعية كلها ومستشفيات القطاعات العسكرية ومستشفى الملك فيصل التخصصي وفروعه وأغلب المستشفيات الخاصة، هذه كلها قامت بالأساس على أكتاف جيل الأطباء السعوديين الذين شارفت أعمار من بقي منهم حتى الآن على السبعين. أمر ما حدث قبل بضع سنوات جعل مصير الأطباء السعوديين في يد البيروقراطية الحكومية العرجاء العمياء التي لا ترى في الأنظمة واللوائح سوى ما يخدمها ويجملها عند الدولة وما هو في صالحها. هذه البيروقراطية الإدارية بكاملها، ممثلة بديوان الخدمة المدنية ووزارة المالية وصولاً إلى وزارة الصحة عملت بصمت ومثابرة مدهشة على قصقصة أجنحة الأطباء الوطنيين بالذات مالياً ودفعهم من الدرجات الأعلى في العوائد المالية إلى عدة درجات أسفل السلم. الوزراء والوكلاء والمديرون والقائمون على شؤون الموظفين في كل دوائر الخدمة المدنية، هؤلاء جميعاً لا يعترفون بالفارق العلمي والخدماتي بين العاملين المؤهلين في المجال الطبي الميداني وبين الموظف المدني الجالس على طاولة يتصفح الجرائد ويحملق في وجوه المراجعين حتى ينتهي من قراءة الصفحة الرياضية من جهة أخرى. هذه العقلية البيروقراطية الغيورة على مصالحها الخاصة في المقام الأول فاقمت سوء الأوضاع المادية والمعنوية للكفاءات الطبية والصيدلانية والفنية السعودية لدرجة: 1- أن أغلبهم يعمل ساعات إضافية في القطاع الخاص لكي يحسن وضعه الاجتماعي والمعيشي، ولأنه يحصل هناك على أكثر مما تدفعه له الدولة. 2- أن أعداداً متزايدة من هذه الكفاءات الوطنية هاجرت أو تبحث بكل جدية في إمكانية الهجرة إلى دول تكفل لها ما فقدته في البيئة المحلية. 3- أن بعض المبتعثين للدراسات العليا في الخارج بدؤوا يأخذون بنصائح العائدين قبلهم إلى الوطن بأن يفكروا ألف مرة فيما سوف يفقدونه بعد العودة. الفواقد في حقيقة الأمر لو طبقنا مبدأ المصارحة قبل المسامحة، كثيرة جداً، ليس أقلها الجو العلمي المفتوح على حرية وكرم البحث العلمي، والتقدير المعنوي المتناسب مع المجهود والإنجاز، والعائد المادي المجزي والتأمين الصحي المغطى بالكامل وسهولة الوصول إلى كل المؤتمرات العلمية في أرجاء المعمورة. تكثر في الشهور الأخيرة المقالات النقدية حول تطفيش الكفاءات الطبية الوطنية إلى الخارج واضطرارها أحياناً للهجرة إلى دول مجلس التعاون الخليجي في المقام الأول. تكثر الانتقادات أيضاً لامتداد أذرع الأخطبوط البيروقراطي إلى الملحقيات التعليمية والثقافية السعودية في الخارج. قبل أيام تم الاستغناء عن خدمات أكثر من عشرة بيروقراطيين في الملحقية التعليمية في أمريكا بسبب التسيب والإهمال في التعامل مع احتياجات المثقفين. بكل جدية أعتقد أن العفن البيروقراطي المعشش في الدوائر الحكومية هو المسؤول الأكبر عن تعثر خطط التنمية وفشل بعضها وانتشار المحسوبية والفساد الإداري في المكاتب والأروقة والدهاليز. ما أتمناه وأرجوه من هذه السطور هو أن تتدارك الدولة الخلل الحاصل في التعامل البيروقراطي مع الكفاءات الطبية الوطنية قبل أن يطير كل من له جناح إلى إحدى الدول المجاورة التي تفتح ذراعيها ترحيباً به أو يقرر البقاء حيث هو الآن خارج الوطن.