أضحت قضايا البحث عن وساطة للحصول على موعد أو سرير للأمراض المتعددة في مشفى أفضل، يطمئن إليه المريض، وإلى الطبيب المقيم أو الاستشاري فيه- ظاهرة يعيشها المواطن، ويُصاحب ذلك برنامجاً مضنياً من المتابعة والإرهاق، بل والمصاريف الإضافية للتنقل بين موقع المستشفى وبين سكن هذا المواطن الذي قد يكون خارج دائرته الجغرافية غالباً، وأمام ذلك باتت قضية تصاعد الأخطاء الطبية التي تؤدي إلى مقتل المريض أو إلى عاهة أو إلى مرض أكبر أو تعقّد حالته المرضية ظاهرة ترتفع نسبها بصورة مروعة، دون أي ردّ فعل أو اهتمام أو تحرّك ميداني فاعل مؤسس لتكليف جهات تملك القدرة والنزاهة والاستقلال معاً، فتدرس الكارثة ومسبباتها على الصعيد الوطني، وتتابع الحالات ميدانياً وبعقوبات رادعة لمن يُدان فعلياً، فتكشف حالات التستر التي قد تجري، كما أنها تبرئ المتهم دون مسؤولية. وأيضاً نحن بحاجة إلى هذه الجهة حين تتوفّر فيها عوامل النجاح التي ذكرنا لتضع ميزاناً للتثقيف المزدوج: الأول: تجاه الأطباء الذين لا يعطون الفترة الكافية للمريض وذويه بشرح الحالة المرضية وإعطائهم الخيارات الموجودة للعلاج، ومع أنّ قضية وعي الطبيب بمسارات الحالة المرضية والاستماع الواعي والهادئ لما صاحب المريض من مراحل نشوء وتفاقم الحالة أضحى في ميادين الطب المتقدم سلوكاً مهماً ومؤشّراً حيوياً لمقدمات التشخيص، إلاّ أنّ بعض الأطباء وربما في نسب مرتفعة في المناطق البعيدة عن مراكز الدولة،، أو في المشافي التي تتعرض لضغط شديد يُلغي هذه المقدمات فيقطع حديث المريض أو ذويه ويُصّر على أن يستمعوا له قبل أن تستكمل الحالة العرض المعقول لتاريخ المرض. خصخصة صحة المواطن ومع دوائر الضغط الشديدة وتزايد الاحتياج اليومي لحالات العلاج للأمراض المستديمة والمستعصية - منّ الله بالشفاء على الجميع - ، فإن ما يَبرز على ساحتنا الطبية قديماً وحديثاً لا يُعطي دلالات لبرنامج شامل من التأهيل الطبي والعلاجي الذي يضمن دقة التشخيص ونجاعة المعالجة وتخفيض حالات الخطأ إلى أدنى مستوى، إنما قوبل هذا الازدحام والضغط الذي يعاني منه المواطن بتوسيع ومركزية خصخصة صحته بحيث تم ترسية العلاج بصورة كبيرة على المستشفيات الأهلية، وهي وكما نعايش يومياً لا تزال في كثير من حالاتها، ولسنا نعمم، إلاّ أنّها في ظاهرتها المركزية تعطي مؤشرات على نقص شديد في الخبرة الكافية لأطباء التخصص، وسرعة قياسية في فواتير التحليلات وضخامتها، والأهم من ذلك العجلة في التشخيص والخطأ في تحديد الدواء، ويجب أن نكون صريحين للغاية في هذه القضية الحسّاسة، وهي أن اندفاع وزارات الدولة وأجهزتها المتعددة، وكما جرى في المشروع الكارثي لشركة أرامكو، الذي تحدثت عنه تفصيلاً في مقال سابق بصحيفة المدينة، وهو ما يجري الآن بصورة مضطردة نحو خصخصة صحة المواطن، خلق هستيريا من الاندفاع نحو سوق الصحة الأهلي لاقتسام هذه الثروة الهائلة التي تُصبّ على قطاع الخصخصة الطبية لكي تقتسمها مؤسسات وشركات الخدمات الطبية، ومرةً أُخرى ونحن نؤكّد على عدم التعميم، إلاّ أن هذا التفويج الضخم لسوق الطب الأهلي وتسليمه مستقبل الأسرة السعودية وصحتها في مقابل أموال هائلة تُدفع وتنافس على أكبر عدد ممكن من الأفراد لإدراجهم ضمن مؤسسات التأمين الطبية الضعيفة وغير المأمونة أو المستشفيات الخاصة، وفي موسم مادي متصاعد لهذا القطاع، ورقابة ضعيفة، كل ذلك يجعل نزاهة الخدمة الطبية صعباً تحقيقها في كثير من الحالات، ونحن نعرف ذلك بشهادات مباشرة ومسموعة، وإن كانت بعض الحالات تُنشر في الصحف والإعلام الإلكتروني وتصل للمسؤول. إنه من المؤكد أن طبيعة تخصص الطب وقَسَمُه الإنساني الكبير يُحتّم عليه تلك الأمانة والنزاهة، وهي ظاهرة لا تزال متواجدة، لكن الإشكال والخطر حين تكون دوافع الإثراء للطبيب، وعبر هذه المؤسسة الخاصة مقترنة بهذه الفوضى، فيتعرض للضغط، أو الإحباط، أو نوازع النفس من اللامبالاة أو المشاركة في تحصيل ما يُعرض عليه من مكسب مادي، كل ذلك يجعل الطبيب عرضة لجرح كرامته المهنية أو التنازل عن مسؤولياته الأخلاقية، وينعكس ذلك على صحة الفرد وأداء المؤسسة الطبية، ثم يبدأ بالاستشراء في سوق التداوي المزدحم بالسوق التجاري ومن هو الضحية بعد ذلك؟ إنّها صحة المواطن والمقيم. إن عدم تقدير الكفاءات الطبية داخل المؤسسة الصحية العامة، والتقصير في سُلّم رواتبهم، وضعف تحفيزهم لرعاية الأداء الصحي، والحرص على دقة التشخيص والمعالجة، مع تأمين ذلك بالحوافز المادية والمعنوية المستحقة للكوادر الوطنية والأطباء العرب والمقيمين المبدعين، مع نقص التعيين، وكثرة التسرّب تسبب في ذلك العجز الذي دفع إلى معالجة خاطئة عبر خصخصة صحة المواطن، وبالتالي أُقيم سوق لم يستكمل أساسيات بنائه التخصصي والمهني، ولم تُضبط لوائح المراقبة والمتابعة ميدانياً، وصُب عليه ثروات تاريخية، فاشتعلت فوضى الصراع على حساب صحة الأسرة السعودية والمقيمة الضيفة، وفي حديث مع أحد الأصدقاء النبلاء وهو مدير مؤسسة طبية ضخمة ذكر لي هذا الإشكال بعد أن طرحتُ تساؤلاتي، وقال: إن هناك برنامجين ناجحين على مستوى العالم، هما الكوبي والكندي، وقد قُدّمت دارسة شاملة لهما منذ الوزير السابق، ولكن لم تُعتمد، مما عزّز فوضى الخدمات الصحية لدينا، وقد فهمتُ بعد ذلك بأن النظام الكوبي الصحي الأفضل في الصدارة العالمية، خاصة بأنه يلغي الطبقية المادية، ويُعطي الجميع حق التداوي الشامل دون تصنيف، وهو ما يتطابق مع روح وتعليمات الشريعة الإسلامية المعلنة في شعار الدولة، فلا أدري لماذا يتأخر هذا المشروع، وما تحتاجه الخدمات الطبية مما ذكرناه وغيره، خاصة مسألة توسيع مراكز الرعاية الأولية الناجحة بتقديري؛ لكي تحتضن تخصصات أكثر مع الأجهزة المساندة في ظل الضغط الشديد على المستشفيات والنقص الكبير في عدد الأسّرة. كلنا أمل ورجاء بالتصحيح، مصحوب بألم في الضمير للراحلين أو المصابين من الأخطاء الطبية أو نقص الخدمات، مذكّرين بمبدأ مقدس في حياة الأوطان... صحة الشعب أولاً.