ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن (الانزياح) يكاد يكون هو الحد الفاصل بين الخطاب الأدبي وغيره من الخطابات، إذ إن المبدع فيه يكسر الأعراف التقليدية للنظام اللغوي، وينحرف عن قواعدها، ويتجاوز قوانينها، وهذا هو المطلوب من المبدع، وهو ما يتوقعه المتلقي حين يُمارس قراءة الإبداع. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن وجود (الانزياح) في الخطاب الأدبي يستلزم وجود قارئ يَمتاز بالذكاء اللغوي، والقدرة على فهم الانحرافات الأسلوبية التي يُمارسها المبدع في الخطاب، واستيعاب تلك الانزياحات التي تَموج بها النصوص الأدبية، بِما يَمتلكه ذلك القارئ من ثقافة ودربة ومُمارسة، وما يتميز به من تَجربة وخبرة في معرفة الأساليب اللغوية والجماليات التركيبية؛ لأنَّ مواجهة النص الأدبي مع قارئ غير ذلك ستمسي مواجهة غير متكافئة على الإطلاق، وسيرجع القارئ منها بِخُفَّي حنين، بل دونَهما. وقد أدركت المناهج النقدية الحديثة أهَمية هذه الجمالية في الخطاب الأدبي، واستوعبت دوره الكبير في تَمييزه وخصوصيته، فأكدت عليه في كثير من مبادئها وأفكارها، ولعل توجه هذه المناهج إلى الاهتمام بالنص الأدبي، ومُحاولة تفكيك شفراته اللغوية، والتأكيد على قراءة الخطاب قراءة نصية، تبتعد عن كل ما هو خارج عن فضاءات النص، راجع إلى عنايتها الشديدة ب(الانزياح) اللغوي والتركيبي في الإبداع، وكونه يَمتلك الكلمة الفصل في تَمييزه ومنحه الاستقلالية التامة. ولكن ينبغي هنا التنبه إلى أمر مهم، وهو أن الدور المهم الذي يلعبه (الانزياح) في خصوصية الخطاب الأدبي يَجب ألا يؤدي إلى فوضى لغوية وعبث أسلوبي، ولا يُفهم من أهَميته في استقلالية الإبداع فتح الباب على مصراعيه للمبدع ليتلاعب بالنظام اللغوي والتركيبي ليقول ما شاء، في أي صورة شاء، معتقداً أن قيمة (الانزياح) وأهَميته يمكن أن يَمنحه حرية مطلقة في هذه الممارسة، وإلا لأضحى النص الأدبي جنساً من أجناس الهذيان، وهو ما وقع فيه كثير من المناهج النقدية الحديثة التي دعت إلى فتح الفضاء اللغوي والدلالي للمبدع، دون فرض أي قيود عليه، بِحجة أن الالتزام بالنظام اللغوي هو نوع من التحجير عليه، وعدم منحه المساحة الكافية لتجلية إبداعه. وإذا انتقلنا من الحديث عن أهمية هذه الجمالية في خصوصية الخطاب الأدبي عن غيره من الخطابات الإنسانية إلى الحديث عن أهميته في التمييز بين الخطابات الإبداعية فيما بينها فإن الأمر يبدو أكثر أهمية، حيث إالتفاوت فيما بين هذه الخطابات من ناحية الجماليات يرجع بصورة كبيرة إلى اختلاف المبدعين في طريقة انحرافاتهم في نصوصهم الأدبية، وطبيعة الانزياحات التي يعمدون إليها في إنشائها، وكيفية تعاملهم مع النظام اللغوي واستثمار الخروج عن قواعد وقوانينه في رسم الصورة الفنية، والتعبير عن الدلالة المقصودة.