.. وإذا أردنا أن نعود إلى الجذور الأولى لمفهوم (الانزياح)، الذي فرض نفسه بقوة على الدراسات الأدبية الحديثة، فسنرى أن john cohn (جون كوهن) هو أول مَنْ أصَّل لهذا المصطلح، وكانت له اليد الطولى في إكسابه شهرة وانتشاراً في النقد الحديث الأسلوبي والبنيوي تحديداً، وذلك حين أقام نظريته عن (الانزياح) على ثنائية (المعيار/ الانزياح)، وثنائية (الدلالة التصريحية/ الدلالة الحافة) في مفهوم (الانزياح). وقد كان جون يقصد بهذا المفهوم مجموعة المبادئ والقيم الجمالية التي يسعى إليها المبدع في خطابه الأدبي عامة والشعري خاصة رغبة في إكساب هذا الخطاب نوعاً من التميز والنفور والبُعد عن الأنماط المعيارية في النصوص الأخرى. أما Michael Riffaterre (ميشال ريفاتير) فقد اعتبر أن موقع الانزياح بين الشعرية والأسلوب، وعرفه بأنه انزياح الخطاب عن النمط التعبيري المتفق عليه، أو هو الخروج عن القواعد اللغوية، وعن المعيار الذي هو الكلام الجاري على ألسنة الناس في استعمالاته، وغايته التوصل والإبلاغ. تبقى في هذا السياق قضية في غاية الأهمية، هي مسألة البحث عن معيار؛ فهي تمثل صعوبة في حد ذاتها، خاصة إزاء المنحى البلاغي العام للبلاغة العربية الذي يؤكد توافر اللغة العادية على الأوجه البلاغية، كما أن تزايد الاهتمام في الدراسات النقدية الحديثة بالمقاربات اللسانية يُعَدّ مؤشراً قوياً على افتقار مفهوم (الانزياح) للبُعد الإجرائي، كما يُعتبر ذلك دلالة واضحة على وضع نظرية الأدب في إطار النظرية البلاغية العامة، وهذا ما ينسجم مع مباحث علم النفس المعرفي وعلم النفس اللساني التي ما زالت تؤكد البُعد المعرفي للأوجه البلاغية كالاستعارة والكناية. ولذلك فإن الدراسات الأدبية حين أكدت أن الباعث على الاهتمام بمفهوم (الانزياح) البحث عن خصائص مميزة للغة الأدبية؛ ما كان له الأثر البالغ في مسار البحث البلاغي الحديث؛ حيث كاد يتوجه في مجموعه إلى وجهة مغايرة لروح البلاغة القديمة، هي بالأساس بلاغة النص الأدبي، كانت تدرك في الوقت نفسه ما يمكن أن يعترض هذا المفهوم من مشوشات نظرية وتطبيقية ترجع في الأساس إلى صعوبة بناء المعيار. ومهما يكن من أمر فإن التعريفات والمفاهيم التي جاءت في كتب المنظرين لمفهوم (الانزياح) تتفق جميعاً على أن الأدب ينقل اللغة من الاستعمال العادي النمطي والكلمات من المعنى المعجمي إلى دلالات جديدة بعيدة عما وُضعت له سعياً إلى تحقيق أهداف الإثارة والدهشة والاستحسان، غير مغفلة التوصيل والإبلاغ؛ حيث إنه يبقى هدفاً رئيساً من أهداف الخطاب الأدبي إلى جانب الهدف الجمالي، أو هكذا ينبغي أن يكون. إلا أن المتأمل في واقع المناهج النقدية الحديثة سيلحظ أن هدف التوصيل والإبلاغ يكاد يتوارى أمام الهدف الجمالي، بل إنه عند بعضها لا وجود له أصلاً، ولذلك فإن اهتمام هذه المناهج بالانزياح راجع إلى الوظيفة التي تؤمن بها، وتعتقد أنها هي الوظيفة التي ينبغي أن يؤديها الناقد؛ حيث ترى أن الذي يمارس قراءة الخطاب الأدبي ينبغي ألا يكون اهتمامه موجَّهاً إلى شرح هذا الخطاب أو تفسيره، ومن البدهي ألا ينظر إلى دوره ووظيفته أو قيمته الثقافية أو الاجتماعية، وإنما تكون عنايته منصبَّة نحو لغته ومدى تماسكها ونظامها؛ لذلك فليس من العجيب أن يقررRoland Barthes (رولان بارت) حين يتحدث عن مهمة النقد بأن كشف الحقائق ليس من تلك المهمات، وأن الناقد ينبغي أن يكتشف الممكن فقط، وأن يطابق بين لغة المبدع وعصره وفق النظام الشكلي للقوانين المنطقية التي استمدها من عصره، ومن ثم فإن البرهان في النقد لا يكمن في كشف العمل الخاضع للسؤال، ولكن في تغطيته بلغته الخاصة قدر الإمكان.