جميع الدول التي نتندر بأزمتها الاقتصادية في أوربا الغربية وأمريكا، هي دول أغنى منا بمراحل، بما فيها اليونان، فضلا عن اقتصاديات الدول المتطورة التي نتشمت بأزمتها الاقتصادية. فاقتصاد اليونان خليط بين الاقتصاد الريعي والاقتصاد الصناعي، بينما اقتصادنا اقتصاد استهلاكي قائم على استهلاك البترول. فلا هو اقتصاد ريعي يتجدد كل عام ولا هو اقتصاد صناعي يتطور وينمو عبر الزمن. (الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد الذي لا يمكن تطويره وزيادته ولكنه يتجدد سنويا كالسياحة والزراعة، ومشكلته أن معدل زيادة عدد السكان ستغلب معدل النمو فيه مع الزمن). المشكلة الحقيقية للأزمة الاقتصادية اليوم هي مشكلة نمو لا مشكلة ديون (فالديون الاستثمارية مشكلة الدائن لا المدين، كما بينت في مقال سابق). استمرارية النمو هو التحدي التي تواجهه الدول المتقدمة. فالنمو مثله مثل منحى التعلُم، يبدأ عاليا وسريعا ثم يتباطأ حتى ينعدم أو يتناقص. والدول المتقدمة وصلت حدا من الكمالية ما أصبحت به عاجزة عن تحقيق نمو جديد، فكل شيء موجود. ولذا ترى معظم أعلى الدول نموا هي الدول المتأخرة عن ركب التقدم والحضارة، والتي بدأت مؤخرا في الاستيقاظ واللحاق بالعالم المتطور. فالنمو هو نسبة زيادة الإنتاج السنوية. وكلما كانت الدولة قائمة على اقتصاد صناعي متطور، كلما كانت تعاني مشكلة أشد اليوم في النمو. فبحسب صندوق النقد الدولي، ففي عام 2010 م جاءت ألمانيا (أعظم اقتصاد في أوربا) في المرتبة (100) في معدل النمو بين العالم وأمريكا في المرتبة (116)، بينما جاءت اليمن وزمبابوي وأفغانستان من أعلى وأسرع عشرين دولة نموا في العالم. كلما تطور اقتصاد البلد كلما زادت مشكلته في مواجهة استمرارية النمو. وما ذاك إلا لأن الاقتصاد المتطور يقوم على الإبداعية الذاتية، لا على التقليد (ولهذا تنشط هذه الاقتصاديات في الحروب ليس لأنها فقط تنتج سلاحها، بل وتبدع وتطور تصنيعه). والاقتصاد الأمريكي أفضل ما يضرب فيه المثل في هذا الباب. فالمتأمل لنمو الاقتصاد الأمريكي بعد طفرة الآلة والثورة الاقتصادية، يجد شواهد ما أقوله. ففي الستينات كانت طفرة السيارات التي نما عليها الاقتصاد الأمريكي، ثم انتقلت الصناعة إلى الدول الأخرى المتطورة المُصنعة فنَمت عليها. ثم دخلت أمريكا في أزمة اقتصادية في السبعينات (تأسس فيها الدولار بغطاء النفط آنذاك) لم تخرج أمريكا منها إلا على طفرة صناعة الاتصالات (في الثمانينات).فنما اقتصادها عليها، فتلقف (الاتصالات) العالم المتطور فحسنها وطورها ونما عليها، ثم قلدتها الدول الناشئة فنمت عليها. ثم دخلت أمريكا في أزمة اقتصادية بداية التسعينات أخرجتها منها الثورة الرقمية المتمثلة بالانترنت والكمبيوتر، فنمت عليها. ثم تلقف طفرة (الدوت كم) العالم المتطور بالتحسين والجودة فنما عليها، ثم تلقفتها الدول الناشئة بالتقليد ونمت عليها. ثم دخلت أمريكا في أزمة اقتصادية في بداية القرن، ولكنها لم تطل كسابقاتها. فقد كانت هجمة الحادي عشر من سيتمر دافعا للعجوز قرين سبان أن يغير مبادئه، ويبتدع صناعة جديدة هي صناعة الأدوات المالية التي نمت عليها أمريكا نمو قويا العقد الماضي قبل دخولها في الأزمة الاقتصادية الحالية. وقد تلقف صناعة الأدوات المالية العالم المتطور (لكن دون تحسين هذه المرة بل مجرد مقلد) فنما عليها. وأما الدول الناشئة والعالم الثالث فقد كانت هذه المرة مجرد مستهلك، يدفع ثمن هذه الأدوات. لا أدري إن كان هناك من يؤيدني في نظرتي هذه، أو قد قاله من قبل، ولكن القراءة الاقتصادية التحليلية للنمو العالمي تثبت أن أمريكا هي محور نمو العالم. فهي تُبدع الاختراع أولا ثم يتلقفه منها العالم المتطور فيُحسن المنتج ويطوره ثم يتلقفه الدول الناشئة بالتجميع والتركيب والتقليد المحض، ثم العالم الثالث ينمو إذا كان عنده مورد كالبترول باستهلاكه للاختراعات في بناء بنية تحتية كالمطارات والعمائر والموانئ وغيرها. وعلى كلٍ، فإن مشكلة استمرارية النمو مشكلة معروفة، وهي التحدي القائم اليوم للدول المتقدمة. ويرى الكثير أن الحل يكمن في الاختراعات الطبية. ولكني أعتقد أن بجانب هذا بدعة أمريكية جديدة تتعلق بالنظام النقدي أتوجسها من الترابط بين طفراتها الاقتصادية، ومن مسرحية الإفلاس الأخيرة. فكل طفرة اقتصادية في أمريكا قامت بسبب الطفرة التي قبلها. فالسيارات قامت على الطفرة الصناعية. وطفرة الاتصالات قامت على طفرة التكنولوجيا التي أتت بها السيارات والطائرات. والطفرة الرقمية والكمبيوتر قامت على الاتصالات وبالعكس. وطفرة الأدوات المالية قامت على الاتصالات والطفرة الرقمية، وعلى لعبة البترول والدولار في السبعينات.