كانت الأسواق في الماضي تمثِّل ملتقى للتبادل التجاري والثقافي والاجتماعي، وعلامة بارزة على تطوُّر المدينة، وكثرة سكانها، وقوة تجارتها مع باقي المدن المجاورة لها، وخير دليل على ذلك سوق عكاظ الذي كان يُعَد من أشهر أسواق العرب في الجاهلية، إذْ كان يُفد إليه معظم قبائل العرب، حيث كانت تعرض فيها السلع والمنتجات التجارية ألبسة وأقمشة وأوان منزلية وأدوات زينة وعطورات وأسلحة: كالخناجر والسيوف، إلى جانب ذلك كانت الأسواق ملتقى للصُّلح بين القبائل وحل الخصومات والمنازعات، وكذلك إنشاد الأشعار، حيث كان الشعراء يلتقون فيها وينشدون أشعارهم، حتى اشتهروا وصاروا معروفين عند كل القبائل العربية، ونُقلت أشعارهم من جيل إلى جيل. واليوم لو أتيحت لك الفرصة وقمت بزيارة بعض الدول العربية وتجوّلت في بعض مدنها، كدمشق، والقاهرة، وعمان، وباقي المدن الخليجية لاستنشقت عبق الماضي ينبعث من أسواقها القديمة التي لا تزال عامرة، وتكتظ بزبائنها وروّادها من محبي التراث وممن يحنّون إلى ماضي أجدادهم العظيم، تراها بعظمتها شامخة بكبريائها تزاحم الأسواق الحديثة وتقاوم عوادي الزمن وعوامل الفناء، ولو استنطقتها لحدثتك عن عراقتها وأصالتها وعظمة أهلها. ومما أعجبني وشدّ انتباهي من الأسواق القديمة والتراثية بالخليج سوق «واقف» بمدينة الدوحة، حيث يُمثل هذه السوق معلماً بارزاً من معالم قطر، والزائر لهذه المدينة لابد له من أن يعرج إليها ليرتوي من عبق الماضي والحاضر عبر المحلات التجارية القديمة والحديثة وما فيها من تنوُّع في الأطعمة والأشربة والألبسة، ومما يدهشك ويسعدك التنوُّع البشري الذي تعجُّ به هذه السوق، حيث تجد مختلف الجنسيات حسب تنوُّعهم الديني والثقافي يتسوّقون ويشترون الهدايا التراثية وغيرها. هذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى كتابة هذا المقال وجعلتني أتساءل: لماذا لا نهتم أو نحافظ على تراثنا القديم وننقله للمواطنين والزائرين بشكل لافت وجذاب، فنحن مهد الحضارة والتاريخ فلا بد أن نحافظ على تراثنا القديم وننقله بأمانه إلى الأجيال الحالية بتاريخنا وموروثنا الشعبي مما يعكس ذلك على شخصيتنا الوطنية. ومن هنا لماذا لا يتم رسم تصوُّر لمشروع وطني؟ من خلال الجهات المعنية كالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، والهيئة العليا للسياحة والآثار، وأمانة مدينة الرياض، والجهات المعنية الأخرى، يتم من خلاله حصر الأسواق القديمة التي لا تزال موجودة وقائمة في منطقة الرياض، والاهتمام بها عبر إضافة بعض اللمسات الجمالية من تأسيس وبناء بعض الحوانيت والمقاهي الشعبية والمطاعم المتنوّعة الشعبية والحديثة، ونجعل من هذه الأسواق مزاراً خاصاً لجميع المواطنين والمقيمين أيام الأعياد والإجازات الأسبوعية، واليوم الوطني وغيرها، وتصبح هذه الأسواق معلماً من معالم منطقة الرياض. ولعلّنا نتمكن من استعادة بريق وعبق وأصالة تلك الأسواق الشعبية، ونتيح الفرصة لكل المواطنين الذين لديهم اهتمام بالتراث أن يعرضوا منتجاتهم ويسوّقوها عبر معايير ونظم توضع لتلك الأسواق، ولو أردنا أن نطرح مثالاً حيّاًً لأحد هذه الأسواق التي نريد أن تهتم بها الجهات المعنية سوق (الزل) بمدينة الرياض فهذا السوق جاهز لأن يكون سوقاً جاذباً ولائقاً بمدينة الرياض نظراً لما يحمله من ذكريات جميلة وقريب من المصمك، مما يزيده ذلك بريقاً جمالياً، وقد يحتاج هذا السوق إلى ترميم بعض أجزائه القديمة ورصف الممرات بحجر ووضع قنوات تصريف السيول والأمطار، وتخصيص أماكن لتناول القهوة والشاي والأكلات الشعبية، وإتاحة الفرصة لأصحاب المطاعم الشعبية بفتح محلات لهم به وتسهيل مهمتهم، حتى يصبح هذا السوق مزاراً لكل الناس يجدون فيه المتعة في التسوُّق والاطلاع على ثقافة مملكتنا الغالية وتراثها. نعم هناك بعض المحاولات الجادة والرائعة للمحافظة على تراثنا القيم، وأذكر مثالاً على ذلك ما تم في محافظة (شقراء) ومركز (اوشيقر)، حيث قامت الجهات المعنية بترميم الأسواق والمباني القديمة، عبر إضافة بعض اللمسات الجمالية إليها من حيث التصميم والبناء، وأصبحت تلك الأسواق والأماكن خلال مدة وجيزة معلماً بارزاً وشاهداً حيّاً على تاريخ تلك الأمكنة ومزاراً لكثير من المواطنين والمقيمين. ختاماً إذا كنا نريد أن نجعل من بلدنا مركزاً للاستقطاب والجذب السياحي لمواطني دول الخليج والدول العربية والأجنبية، فإنه ينبغي علينا المسارعة إلى اتخاذ كلّ الإجراءات اللازمة للحفاظ على تراثنا القديم وخصوصاً الأسواق القديمة، عبر إضافة لمسات جمالية عليها وإعادة ترميم بعض الأجزاء القديمة والاهتمام بتنظيمها ونظافتها، فإنّ هذا سيشكل رافداً اقتصادياً وثقافياً يساهم في تطوير بلادنا، ولنا في مهرجان الجنادرية شاهد مهم على ما ذهبنا إليه، إذْ إنّ الناس يتشوّقون إلى حضوره ويسألون عن موعد إقامته والمشاركة فيه وما هي المعروضات التي ستعرض فيه وماذا سيقام فيه من فعاليات اقتصادية وثقافية وتراث شعبي.