استكمالاً لما أوردناه في الحلقة الماضية، فالقصائد المتداخلة كثيرة كما أسلفنا، فهناك قصيدة للشاعر المشهور محمد بن لعبون مطلعها: حي المنازل وهن سكوت قفرٍ جباها طواريقي والبوم فيها يجر الصوت والنوم فيها تخافيقي وهذه القصيدة -وبحسب بعض الروايات- تتداخل مع قصيدة الشاعر عبد الله بن جابر أحد شعراء عنيزة والمتوفي عام 1292ه والتي مطلعها: يالورق غرد وجر الصوت ياما لعجل التلاحيقي غرد على غرهدٍ نبوت ما عفجوه المرا ريقي وهذان البيتان وردا في قصيدة ابن لعبون مع تغيير لفظي بسيط لا يمس السياق ولا يخل بالمعنى، حيث يقول ابن لعبون (حمام غرد) بينما هو عند بن جابر (يالورق غرد)، ومع أن القصيدتين ليستا من القصائد المطولة إلا أن هناك تداخلاً بعدد من الأبيات بحسب الروايات المختلفة مع بعض التعديل، فمثلاً يقول أبن لعبون: كوده يهيّض نبا مكموت.. كسّر اقفال الصناديقي فيما هو عند ابن جابر هكذا: هيّضت مني نبا مكموت.. فككّ لياح الصناديقي والحقيقة أن هذا التداخل يختلف عما سبق ذكره وذلك بسبب التلاعب في بعض الألفاظ بطريقة احترافية من حيث (التعديل) و(التبديل) هذا إذا كان هناك خلط، أما إذا كان من توارد الخواطر فهذا وارد علماً بأنه لا يمكن أن يدخل الشك باقتباس ابن جابر من ابن لعبون. فابن جابر الذي توفي وهو في العشرينات من عمره قد اتى بما لم يأت به أمثاله من شعراء جيله خصوصاً في بعض قصائده التي من الصعب على غيره أن يأتي بمثلها من حيث قوة السيك وتطويع المفردة وغرابة اللفظ. وبما أننا تطرقنا للشاعر ابن جابر فلا بد أن نعرج على بعض ما تواتر عنه من بعض الرواة من حيث اقحامه ببعض الروايات التي تنقصها الدقة وفي ذلك دلالة على نبوغه الشعري وحضوره القوي في هذا المجال. ومن تلك الروايات أن الشاعر (محمد عبد الله القاضي) والذي عاصره ابن جابر قال له مختبراً شاعريته: هنوف ماتنوصف بوصوف.. وان قضت الراس وش كنه وان ابن جابر اجابه على الفور: كنه مهاة تقود خشوف... .. ولا فحوريه الجنة وأن القاضي شهد بعد ذلك بشاعريته الفذة، وهذه القصة ما زالت تتردد حتى الآن رغم عدم صحتها وهي من (تصنيف) بعض الرواة لأن كلا البيتين للشاعر (ابن جابر) من قصيدته التي مطلعها: نح يا القميري على المرصوف غينٍ عن الشمس مكتنه يا الورق صفن صف صفوف واصف وانوح معكنه وهذه القصيدة قد أغضبت الأمير زامل أمير عنيزة آنذاك بسبب ان ابن جابر قد دعى على المنطقة المسماة (الجوّ) الواقعة شرق مدينة عنيزة والمكتضة بالمزارع آنذاك وهي الآن منطقة سكنية وسط مدينة عنيزة حيث قال من ضمن القصيدة: لعل جو العلي لخسوف عسى الصواعق يهدمنه حدايره ينشفن انشوف بالقيظ مايرتوي شنه وراه ماظلل الغطروف خلي للاشواب يشونه ولكنه بعد أن علم بغضب الأمير قال قصيدته الاعتذارية معلناً ندمه على ما قال، حيث مدح مزرعة (هلالة) وهي إحدى المزارع الواقعة بمنطقة (الجو) والعائدة ملكيتها لزامل، حيث قال: قلت قولٍ يوم مانيب الصحيح والعقل والراس ماهنب الصحاح العجب لله لولا اني متيح كيف اسب الجو وارضى بافتضاح جونا مايستحق الا المديح هو ربيع قلوبنا لو هو متاح ذي هلاله كل مامنها مليح حلوة المشروب شهلولٍ قراح قتها ولى رسى مثل السريح و الذرة وان حوربت مثل الرماح ظل غينه منوةٍ للمستريح مع تفافيح ٍ تهزعها الرياح إلى آخر القصيدة. وإضافة الى ذلك هناك من يروي بأن الأمير زامل قال له ملغزاً خلال مساجلة بينهما: قلبي كما سمحٍ تبدد بضاحي....... .......... يا من يلمّ السمح والرمل غاطيه وأن ابن جابر أجابه قائلاً: سقاه من نو الثريا رواحي............. ... حتى الى ما نجنج العشب نجنيه والحقيقة أن كلا البيتين ليسا لكليهما وإنما هي مجموعة أبيات نسمع بها ويقال أنها مرسلة من أمير حائل ابن رشيد الى زامل أمير عنيزة - حسب بعض الروايات - وأن زامل قد استعان ببعض شعراء عنيزة للرد عليها. والأبيات المرسلة تقول: قلبي كما سمح ٍ تبدد بضاحي يا من يعزل السمح والرمل غاطيه واللي بذر بذره حكيمٍ وصاحي ومزبرات النفد فوقه تذريه لاصار بفجوجٍ بياح وبراحي وشلون تمسك به يدينك وتعطيه أما الرد على ذلك اللغز فيقول: يسقيه من نو الثريا رواحي ينبت على رطب الثرى ثم نجنيه ولاجنيته عن مفاليك راحي ماعاد يبقى به جذور تغذيه يما مسا ولا نجيه بصباحي ولا على جرد السبايا انصفيه والقصص المتداولة كثيرة ومتشعبة وبعضها ليس لها وجود على أرض الواقع، فهناك من لديه ملكة في (التأليف) و(التحريف) بحيث ينسج قصة من العدم ويضع لها سيناريو محكماً فيتم تداولها وكأنها حقيقة واقعة، ومثال ذلك القصة المتوارثة عن الشاعر محمد العبد الله القاضي ورهانه المزعوم في قصيدة (القهوة). والحقيقة أن المتابع يقف مشدوهاً أمام تلك الخزعبلات والروايات المتناقضة. ففي الوقت الذي (يتفنن) بعض الرواة في سرد رواية الرهان المزعوم معتقدين بأن (القاضي) لا يقول إلا غزلاً!! يأتي من الرواة والناقلين من يقول إنه قد هرب من عنيزة إلى حائل بسبب قصيدة غزلية!! وأنه قال بعد مغادرته قصيدته التي مطلعها: حل الفراق وحن رايم لمريوم جرحي تعايو فيه شطرين الاطباب وفي كلا الحالتين فإن الأمر مرتبط إما بجهل الناقل أو بمزاج الرواي أو الحكواتي. أما في ما يخص (التحريف) فهو إضافة بعض المحسنات والإضافات لبعض القصص الحقيقية، وذلك من أجل (التشويق) و(التسويق)، ومثال ذلك قصة علوش بن ظويهر في مجلس الأمير (محمد العبد الله الرشيد)، وهي قصة لا تتجاوز أحداثها دقائق معدودة وقد انتهت في وقتها، ولكن هناك من زاد عليها وأضاف لها مشاهد بنفس السيناريو وكأن ابن رشيد قد ترك مهامه الأساسية في إدارة الحكم وتفرغ لاختبار قدرات (ابن ظويهر) في فرز وتذوق القهوة، بينما الواقع يقول إن الأمر قد حسم في اللحظة التي اكتشف فيها وجود الحشرة في قاع (الدلة)، وقد توج ذلك الحدث بقصيدة محمد ابا الروس الذي كان من ضمن الحضور حينما قال: تستاهل الكيف الحمر يابن وايل انت الذي تستاهل الكيف كله يا اللي نقدته وسط ديوان حايل لولاك ياعلوش ما احد فطن له إلى آخر الروايات والقصص والتي بعضها من نسج الخيال والبعض الآخر تكون واقعية ولكنها قد تتعرض لبعض الإضافات والحواشي التي ربما تكون بهدف الإطالة والتشويق.