قد لا يكون من المناسب أن ننحاز إلى تعريف محدد للعولمة في بداية هذا الحديث فقد كثرت التعريفات التي أطلقها الباحثون والدارسون لهذه الظاهرة التي تلف العالم الآن، والتي ذهبوا في تفسيرها والحديث عن آثارها كل مذهب, ومن هؤلاء من يرى أن تعريف العولمة الجامع المانع لم يوجد بعد نظرا لعدم اكتمال الظاهرة ووضوح تأثيراتها, ولعل في هذا الاتجاه شيئا من الصواب إذ كيف نعرف شيئا ما زال في حالة التكون والتشكل، ولعل ما يشهد لذلك أن كثيرا من المثقفين العرب عندما قرأوا أدبيات العولمة الغربية أول الأمر ظنوا ان العولمة وبخاصة في صورتيها الإنتاجية والمالية، تنطوي على تدويل متساو للإنتاج والمال بين دول العالم المختلفة دون أن ينتبهوا إلى أن هذا التدويل يصب بالدرجة الأولى في مصلحة دول المركز في أوروبا وأمريكا، وأن دور دول الهامش، كما سماها فارلشتاين في نظريته الاجتماعية المتعلقة بالنسق العالمي منذ ما يقارب العشرين عاما، ليس إلا دورا ضئيلاً يتمثل في إيجاد القاعدة لمؤسسات التمويل الضخمة والشركات المتعددة الجنسيات كي تنتج بضاعتها من خلال مراكز قد تستخدم فيها الأيادي العاملة الرخيصة والمواد الأولية المتوافرة، إن وجدت, وإلا استوردت الثنتان وكانت الدولة المضيفة مجرد قاعدة للإنتاج والتوزيع عليها وعلى دول الجوار، وبمعنى آخر تتحول هذه الدولة أو تلك قاعدة للاستهلاك وبخاصة إذا كانت من الدول ذات الموارد الطبيعية, ومثل هذا الوضع لا يختلف عمليا كثيرا عما كان عليه الأمر عند بدء الاستعمار الأوروبي للعالم في القرن الخامس عشر الميلادي وبعده حين ساد نوع من التبادل غير المتكافئ بين دول الهامش والمركز (1) ، فقد تسبب الاستعمار في الماضي ب إقامة نظم اقتصادية اجتماعية منبتة الصلة بالتاريخ الوطني والقومي الأصيل للمجتمعات المستعمرة، فبعد ان كانت هذه المجتمعات تنتج وتتاجر لنفسها ومع بعضها البعض ومع غيرها على قدم المساواة ولو بشكل تقريبي، اصبحت هذه المجتمعات تنتج وتتاجر لغيرها (2) ، غير أن ما يهمنا الآن ان نظرية المركز والهامش وإن وجدت بعض الانتقادات من بعض الباحثين الغربيين من حيث التناول من قبل صاحبها (3) إلا أنها قد أثبتت وجودها عمليا، بشكل أو بآخر، في العصر الحديث الذي يكثر فيه الكلام عن العولمة وتأثيراتها المختلفة, وبعيدا عن التعقيدات الاقتصادية تبدو العولمة في أوضح صورها ظاهرة تكرس الهيمنة المركزية لدول الشمال المتقدمة على دول الجنوب النامية أو المتخلفة، ومن خلال هذه الهيمنة تفرض شروطها الاقتصادية والسياسية والثقافية. وإذا اقتصرنا على الجانب الثقافي باعتبار اللغة هي ابرز معالمه نجد أن الهيمنة الثقافية تعد نتاجاً مقصوداً أو غير مقصود لظاهرة العولمة فلا شك أن أذرعة العولمة الطويلة المتمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات وشبكات الإعلام العملاقة والاخطبوطية، وما يصاحب مواكب العولمة من أنماط السلوك والممارسات يمثل اختراقا صارخا لخصوصيات الشعوب وثقافاتها, الأمر الذي ينذر بالتهديد لهويات هذه الشعوب، ولا شك أن الشأن الثقافي لكل أمة هو الذي يحدد بقوة ملامح هويتها، وعندما نتكلم الآن عن الثقافة فإنما نتكلم عنها بمنظورها الواسع المستمد من عقيدة الأمة ولغتها وتراثها المشترك, وتعد اللغة من أهم الملامح التي تكون هوية الأمة وتميزها عن غيرها من الأمم فاللغة والدين هما العنصران المركزيان لأي ثقافة أو حضارة كما يؤكد ذلك هنتجتون في كتابه صدام الحضارات (4) ومن هنا فإن أي تحد لثقافة ما ينطوي على تحد للغتها، فهل تواجه العربية تحديا من هذا النوع في عصر العولمة؟ إن كل لغة تتعرض للاحتكاك باللغات الأخرى هي لغة مرشحة للتحدي، ذلك أن الاحتكاك الحضاري يستتبع احتكاكا لغويا في الغالب بين اللغة الأصلية واللغة الوافدة, عندما كان العرب يعيشون منعزلين نسبيا في جزيرتهم العربية لم تكن لغتهم تتعرض للاحتكاك بالدرجة التي تؤثر فيها تأثيرا عميقا، ولذلك اقتصرت التأثيرات الأجنبية فيها على بعض الألفاظ التي أفادها التجار أو الشعراء من البلدان المجاورة، والمتعلقة، في الغالب، باسماء الأدوات أو النباتات التي لم يكن للعرب بها عهد في جزيرتهم, لكن بعد أن انتشر العرب في بلاد الله الواسعة بفعل الفتوحات واستقروا في الأمصار الإسلامية التي دانت بالإسلام أخذت التحديات تواجه العربية بفعل احتكاكها بلغات البلاد المفتوحة، ومع أن اللغة العربية في ذلك الوقت كانت هي التي تكسب الجولات المختلفة، فتنتصر على تلك اللغات في بلدانها، وتحوِّل أبناءها إلى الثقافة العربية واللغة العربية كما حدث في فارس ومصر على سبيل المثال، إلا أن تأثير هذه اللغات الأجنبية عليها كان واضحا بالدرجة التي جعلت المخلصين من علمائنا القدماء يبادرون إلى جمع اللغة من أفواه العرب الأصلاء، ويضعون القواعد النحوية من أجل تفادي اللحن. أما في العصر الحاضر فإن اللغة العربية تواجه بتحديات شرسة من قبل قوى العولمة المختلفة، المتمثلة في المصالح المادية الناجمة عن الاتصال بالأجنبي، والتأثير الإعلامي القائم على الصخب والضجيج والتبشير باللغة الإنجليزية على أنها اللغة العالمية التي هي لغة البشر, والواقع ان الادعاء بأن اللغة الإنجليزية لغة عالمية ادعاء ليس له نصيب من الصحة عندما يوضع على محك البحث العلمي, ونحن هنا لا نلقي الكلام على عواهنه وإنما نفيد من بحث سامويل هنتجتون في كتابه صدام الحضارات الذي أثبت فيه أن القول بعالمية اللغة الإنجليزية ما هو إلى وهم كبير، بل إن المعلومات المتوافرة لديه تظهر العكس فقد كان عدد الذين يتحدثون الإنجليزية بوصفها لغة أولى سنة 1992م لا يزيد 7,6% من بين المتحدثين بلغات يزيد من يتكلم بها عن مليون نسمة، بل إنه يبين ان نسبة المتحدثين بالإنجليزية قد تدنى سنة 1992 عنه في سنة 1958م التي كان يوازي فيها المتحدثون باللغة الإنجليزية نسبة 9,8% ويخلص إلى النتيجة الآتية وهي أن لغة تعد أجنبية لدى 92% من سكان الأرض لا يمكن ان تكون لغةعالمية (5) ولذلك فإن الوصف الحقيقي للغة الإنجليزية، كما يرى ذلك هذا الباحث، هو أن اللغة الإنجليزية يمكن ان تعد في هذا العصر لغة الاتصال العالمية بين مختلف الثقافات والحضارات، هي لغة يتبادل بها المنافع أبناء التجمعات الثقافية المختلفة فيما بينهم، ولا يتكلمون بها داخل هذه التجمعات التي يستعملون فيها لغاتهم الخاصة, وبذلك يضع هذا الباحث اللغة الإنجليزية في حجمها الحقيقي، بوصفها لغة الاتصال بين المختصين أو من يحتاجونها من الأفراد من جهة ومن يتعامل معهم من أفراد أو جماعات من تجمعات ثقافية أخرى من جهة أخرى، ولهذا تنتفي الحاجة بها لكل أفراد المجتمع، وإنما يكون إتقانها مطلوبا لمن له اتصال بشكل أو بآخر مع أي عنصر أجنبي حسب تخصصه سواء كان تاجرا أو دبلوماسيا أو باحثا، أو غير ذلك. إن التحدي الذي يواجه اللغة العربية في هذا العصر مرده إلى الشعور المبالغ فيه بأهمية اللغة الأجنبية، الناتج غالبا عن الانبهار بكل ما هو أجنبي، والظن الزائف بأن التقدم لا يأتي إلا عن طريق إتقان اللغة الأجنبية للجميع، بل والتحدث بها بين العرب أنفسهم، وغني عن الذكر ان هذا الشعور يأتي من الإحساس بالهزيمة النفسية التي يعاني منها الإنسان العربي في هذا العصر، والإعجاب المتنامي بصانع الحضارة المعاصرة الذي يمثل المنتصر والغالب, ومعروف رأي ابن خلدون في مثل هذه الحالة التي يعجب فيها المغلوب بالغالب فيتشبه به في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده , والاقتباس من المقدمة . إن هذا الإعجاب يبدأ من المجتمع حين يتحذلق بعض الناس باستخدام ألفاظ وتعبيرات لا تدعو إليها الضرورة، وبعضها له أكثرمن مرادف بالعربية مثل كلمة OK التي لها أكثر من مرادف منها : (حسن،طيب، كويس) والكلمة الثانية كانت مستعملة في عاميتنا إلى عهد قريب إلى أن حلت محلها كلمة OK عند كثير من الناس، أما كلمة كويس فقد دخلت إلينا من اللهجة المصرية وهي كلمة صحيحة فصيحة. وتعد اسماء الأدوات الحضارية التي وردت إلينا من أكثر ألوان الدخيل توغلا في لغتنا، ولكثرتها وعدم ملاحقتها بالتسميات المقابلة فإنها تملأ معجمنا المعاصر، ولا شك ان كثرة الدخيل في اللغة يغير من ملامحها ويجعلها أشبه ماتكون باللغة التابعة أو المعتمدة على اللغة الأخرى مما يحيلها، في نهاية الأمر، إلى مسخ لا تتبين ملامحه، والغريب أن الولع باللفظ الأجنبي يؤدي بكثير من الناس إلى ترك اللفظ العربي المتيسر إلى اللفظ الغريب، مثال ذلك كلمة هاتف فقد استقرت لدى كثير من العرب، وأصبحت مفهومة ومستساغة ومع ذلك فإن كثيراً منهم ما زالوا يستعملون كلمة تلفون ويشتقون منها فعلا، بل إن المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة أثبتها ووضع لها تعريفا ضمن مواده مشيرا إلى أنها من الدخيل، وعندما أورد كلمة هاتف جعل من معانيها التلفون أو من يتكلم به وأشار إلى أنها كلمة مجمعية، وفي ذلك تأصيل لكلمة أجنبية في اللغة ما كان لها أن تدخل المعجم وتكتسب القبول ما دام قد وجد البديل عنها. ومن صور افتتان الناس باللفظ الأجنبي واستعمالهم إياه مع وجود البديل كلمة Mobile وهي تعني الهاتف الجوال، فإن كثيرا من الناس في البلاد العربية يستعملون هذا اللفظ الأجنبي مع وجود أربعة أسماء عربية متوافرة على امتداد الوطن العربي هي: الجوال، والنقال، والمحمول والخلوي (ونحن هنا بالطبع لا نناقش موضوع أي هذه الأسماء أصح وأوفق من الناحية اللغوية), ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن الاستعمال الرسمي هو الذي يكسب اللفظ العربي السيرورة،ويجعله راسخاً في الاستعمال العام، ولذلك كانت سورية من البلدان العربية المبكرة التي التفتت إلى هذه الناحية فعندما بدأت الحكومة العربية تمارس نشاطها الفت لجنة لترجمة المصطلحات الحضارية الدخيلة من التركية والفرنسية، وعندما أنشئ المجمع اللغوي السوري سنة 1919م كان من بواكير أعماله دراسة الألفاظ الأجنبية الشائعة في دوائر الدولة، ووضع ألفاظ مقابلة لها فنقيت اللغة بذلك من كثير من الألفاظ الدخيلة واستبدلت بها ألفاظ عربية, ولعل مما يحمد لدولتنا السعودية أن الاستعمال الرسمي فيها كان دائما في صف اللفظ العربي، ولذلك فإننا منذ وقت مبكر لم نصطدم بألفاظ دخيلة كثيرة على المستوى الرسمي، فلم نعرف كلمة تلغراف التي شاعت في البلاد العربية، وإنما استعملنا منذ البداية كلمة برق ولم نعرف كلمة بوسطة وإنما استعملنا رسميا منذ البداية كلمة بريد ، كما أننا استعملنا في بداية احتكاكنا الحضاري على المستوى الشعبي بعض الكلمات الدخيلة مثل كلمة موتر بمعنى سيارة و كلمة ريل بمعنى قطار وغيرها، ولكن الاستعمال الرسمي ما لبث أن أعاد الأمور إلى نصابها وجعل اللفظ العربي هو السائد, وكان للاستعمال الرسمي الفضل في ترسيخ كلمة هاتف وكلمة جوال . ويبدو التحدي سافرا للغة العربية في المجتمع بفعل العولمة والتشبه الساذج بالأجنبي عندما يجاهر كثير من المحلات التجارية، والمؤسسات الخاصة والشركات العاملة في المملكة والوطن العربي بكتابة لافتاتها بالأجنبية، وتسطير تقاريرها وصياغة عقودها وإصدار تعليماتها إلى العاملين فيها، وإن كانوا عربا، باللغة الأجنبية، الأمر الذي يمس الوضع السيادي للغة العربية بوصفها اللغة الرسمية للمملكة وجميع دول الوطن العربي (حسب ما نص عليه النظام الأساسي للحكم في المملكة، والدساتير السائدة في سائر البلاد العربية) وفي هذه الحالة يرقى الفعل إلى درجة الاستهتار بهيبة الدولة والانتقاص من كرامة البلاد، وفي بعض البلدان المتقدمة يشكل هذا الفعل جريمة يعاقب عليها القانون, والواقع ان قرارات دولتنا الرشيدة كانت دائما مع نصرة اللغة العربية، وهنالك تعليمات كثيرة تؤكد التأييد الرسمي للغة كي تأخذ مكانها المناسب في المجتمع، لكن المشكلة تكمن في تنفيذ هذه التعليمات ومتابعتها من قبل الجهات المختصة. الهوامش: 1 انظر: البرت بيرجسن، قلب نظرية النسق العالمي رأسا على عقب في: ثقافة العولمة، إعداد مايكل فيذرستون، ترجمة عبدالوهاب علوب، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة سنة 2000م، ص ص 69 وما بعدها. 2 محمد عبدالشفيع عيسى، رؤية إلى المستقبل العربي في :العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، القاهرة: مدبولي 1999م ص ص 164. 3 ثقافة العولمة، مرجع سابق، ص 72 وما بعدها. 4 سامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، (بالإنجليزية) نيويورك 1997م، ص59. 5 نفسه ص60.